السبت، 18 يناير 2025

الصوت../ قصة قصيرة بقلم الكاتبة ليلى المرّاني

 الصوت../ قصة قصيرة

                     ليلى المرّاني 

إنتهينا.. الآن يجب أن نقيم مجلس العزاء، إنتظرنا عشرين عامًا 

ولول صوت عمّي الذي يصغر والدي بخمسة أعوام.. سقط رأس ابي على صدره، هرعت إليه أحتضنه، بلّلت دموعه رقبتي، أعنته ليذهب إلى فراشه حاملًا سجّادة صلاته التي أصبحت جزءا منه منذ فقدنا أخي في الحرب.. بعد ثلاثة أيام، أقمنا مجلس عزاءٍ لوالدي ولأخي المفقود.

لم أنم ليلتها، حبال غليظة تلتفّ حول رقبتي، تخنقني.. عينا ياسر التائهتان تتّسعان، تقذفان حممًا تحيل فراشي جحيمًا يستعر؛ فأفزّ مذعورًا، أحوم في غرفتي الصغيرة كطيرٍ ذبيح، يلاحقني الصوت اللعين ، " قتلت أباك "، ترافقه عين سوداء كبيرة تسدّ ما في غرفتي من فراغ. ماذا فعلت؟ كيف منحت نفسي تلك السلطة الغاشمة وقررت مصيره. حين جاء به حارس المعتقل الذي يضمّ مئات الأسرى، صعقت.. قامة هزيلة منحنية يكاد رأسه يلامس الأرض، شعر أبيض مشعّث يختلط بلحية بيضاء كثّة، أستحضر صورته قبل أن تسرقه الحرب منّا، "هذا ليس أخي.. ليس ياسر ".. لحظات حاسمة كانت، بين أن أحتضنه وأعود به إلى بيته وزوجته وابنته، ضائعًا، فاقدًا ذاكرته والنطق، مشعّث الشعر، أشيبه، وبين أن أتركه في عالمه الذي اعتاد عليه، صامتًا كحجرٍ أصمّ لا يعي ما حوله.

جفل وارتجف هلعًا، واضعًا ذراعيه حول رأسه ووجهه حين حاولت أن أحتضنه، أراد أن يهرب، لكن الحارس أعاده، في محاولةٍ منّي لتحفيز ذاكرته، وضعت أمامه صورًا لزوجته وابنته التي تركها وعمرها ثلاثة أعوام، وصور لوالدي وأمّي التي رحلت وهي تذرف آخر ما تبقّى في مقلتيها من دموع، ولكنه كان ينظر إلى السقف ويبتسم ببلاهة أثارت حفيظتي.

ولكنه أخذ صورة زوجته حين حاول الهرب

لم أنتبه، كانت الدموع تملأ عينيّ فلم أرَ ذلك

بل انتبهت وتغاضيت

أيها الصوت اللعين، لماذا تنكّل بي هكذا؟ أخبرتك الحقيقة مئة مرّة، ولكنك لا تريد أن تصدّقني، سأعيدها عليك للمرّة الأخيرة. ذهبت إلى المعتقل وأنا أحمل مبلغ الفدية التي تنقذ أخي من الأسر بعد أن أعلنت حكومة الدولة العدوّة عن إطلاق سراح الأسرى مقابل مبلغ كبير من المال، اضطررت أن أستدينه من عمّي وبعض الأصدقاء، كان الطريق طويلًا لا يريد أن ينتهي، كنت أحمل صخرة سيزيف على ظهري، وعدت وأنا أحمل سيزيف وصخرته اللعينة، نزفٌ في قلبي يوجعني وأنا أمهّد للكذبة التي ستنهي ما تبقّى من احتمال أبي ومقاومته.. تمنّيت أن يطول الطريق، أن لا أعود، أن أهرب.. أو أن أعود إليه، أحمله شبحًا لا يملك من ياسر الذي كان يملأ البيت صخبًا وحياة، غير تلك الندبة التي على أنفه، ولولاها، أقسم ما عرفته، ألقيه عبئًا على زوجةٍ أنهكتها الحياة انتظارًا، وأبٍ لم يبقَ من نسغه إلاّ القليل القليل..

وأملٌ عاد ينمو في قلبك أن…

أن ماذا؟

تحظى بها أخيرًا

أيها اللعين، كيف تقول ذلك؟ هل نسيت إنها زوجة أخي؟

ولكنك أحببتها قبل أن تصبح زوجة أخيك

كنت مراهقًا، وكانت تكبرني بثلاثة أعوام، كتمت حبّي لها، بل وأدته حين علمت أن أخي يحبّها وأنهما تعاهدا على الزواج

ولم تتزوّج لحد الآن رغم بلوغك الأربعين!

نذرت نفسي لرعاية والديّ وابنة أخي كي لا تكون تحت رحمة رجل غريب يدخل بيتنا

ههههههه! حجّة واهية وادعاء كاذب

من أنت؟ أتعبتني.. من أنت؟.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق