الخميس، 30 يناير 2025

حياة. الأديب كمال العيادي الكينغ في 777 كلمة….!!!)

 ❇️ - ( حياتي في 777 كلمة….!!!)*


✍️…خريف 1987, كنتُ شابًّا يتوقّد حماسة, تخلّص للتّوّ وبأعجوبةٍ من معاطف غيلان القيروان والمدرسة الصّوفيّة الصّارمة، اثر نجاحي بتفوّق في مناظرة الباكلوريا آداب وإلتحاقي بالمعهد العالي للفنون المسرحيّة, وحللتُ بالتّالي ضيفًا مُشاكسًا على كُتّاب وشعراء العاصمة الذين استقبلوني في البداية بتوجّس وريبة, بسبب عدائهم المُزمن مع المدرسة القيروانيّة, وتلقفني الطّلبة اليساريون منهم, رغبة في تدجيني وضمّي خطيًّا إلى جماعاتهم المتناحرة…

كُنتُ صهريجًا يغلي ويمور من الغرور, وكانت ثقافتي ثقافة عناوين وقشور. أحفظ كالببّغاء وأردد مقولات وشعارات جوفاء وأدافع عنها بعناد وشراسة.

وانتبهتُ بعد ذلك بسنوات طويلة, وبعد حرث في غابة الخبز واللّغة والغربة والوحدة والقراءة بنهم والتجمّع في صحاري الصّقيع والثلج بروسيا وبعدها بألمانيا, التي سلختْ وحدها أكثر ثلث قرن من العمر القصير، انتبهت بل أيقنتُ أنّ كلّ ما كتبته من قصائد كانت مجرّد استنساخ بشكلٍ ما لتجارب غيري وخصوصًا من شعراء الصوفيّة ومن شعراء الثورات والقصائد الاحتجاجيّة المُولولة الصمّاء.

والحقيقة أنني لم أحزن كثيرًا على كلّ السّنوات التي صرفتها ببذخ في استنساخ تجارب غيري واقتفاء آثارهم. ذلك أنّ المسألة حُسمتْ حين طرحتُ على نفسي سؤالاً مُربكًا، وطالبتُ نفسي بالإجابة بصدق وبدون تضليل. ويا كم كنتُ أضلّل نفسي وأتعلّق بدُخان الأوهام. كان سؤالي لنفسي هو: (هل أنت متأكّد يا سي كمال العيّادي القيروانيّ, أنّك الشاعر ؟؟!!)….وأقصد الشاعر بالألف واللّام, أي ذلك الذي قدّر له الله بمشيئة أن يسعى إلى بيته في  القصيد ويصله ويسكنه إلى الأبد. وكانت الإجابة الصادقة، بالنّفي، هيّ بداية طريقي.

لقد اقتنعتُ ونهائيًّا بأنّني لستُ ذلك الشاعر, وبأنّ كلَّ ما كتبته وما سأكتبه, إنّما هو صدى لكلّ الذين يسكنون ذاكرتي ولساني. واعتكفتُ سنوات لا أكتُب شيئًا تقريبًا واكتفيت بالقراءة وكنت أتلذذ استحضار إحدى القصائد التي كتبتها, لكي أفكّ شفرتها ومناخها وأحلّل كيميائها بصرامة وأعيدها لاسم ورسم صاحبها، وربّما كُنتُ أبالغ أحيانًا، ولكنّني كنتُ في حاجة مُلحّة لأن أسوق لنفسي البراهين الدّامغة التي لا تُدحض, بأنّني لستُ شاعرًا حقيقيًّا طالما في ذاكرتي وكيمياء وعناصر لغتي كلّ هؤلاء الغيلان.

وبدلاً عن السكوت نهائيًّا والاكتفاء بقدري كمهاجر يحرث في غابة الخبز, قرّرتُ أن أعود خطوتين وأسلك الطريق الأرحب الذي يناسبني حقًّا والذي يمكنني أن أزعم أنّه طريق خاصّ بي وحدي.

فبدأت بغزل نسيج السّرد, وكتبتُ أوَّل قصّة لي وكان عنوانها: (باريسا ألكسندروفنا) وفوجئت بأنّ الجميع تلقّفها وكأنّها لؤلؤة بكر..

الشيء الملفتُ للنظر, أنني حين كتبُ هذه القصّة, لم أكن أنوى نشرها كقصّة وإنّما كنصّ أو لنقل مقال صحفيّ عاديّ, أشارك به في جريدة (بريد الجنوب) التي كانت تصدر بفرنسا في بداية التّسعينات وقد حدث وأنّ رئيس تحريرها طلب منّي أن أكتب له عن الشّخوص التي قابلتها في المهجر.

حين كتبتُ وأرسلتُ المقال الثاني والذي كان عن أحد المآسي الحقيقية لعائلة تونسيّة, كنتُ أدرّس لأبنائها وانتهت بخيانة وانتحار. وكان النّصّ بعنوان (موت دون وصيّة), فوجئت برئيس التحرير وهو يهاتفني من باريس ليخبرني أنّ ما كتبته هو أحد أجمل ما كُتب في السّرد التّونسيّ الحديث.

أحسستُ بنشوة وغبطة لا توصف. وتأكّدتُ أنني خُلقتُ لأكون ساردًا وأنّ السّرد طريقي وضالّتي وفيه سأكون وأتحقّق.

أيقنتُ من ذلك, لأنّني كنتُ على يقين وللمرة الأولى بأنّ ما كتبته, هو ملكي أنا, وتجربتي أنا, ومن ذاكرتي أنا. وأنّ ما أكتبُ قريبٌ فعلاً إلى القلب والرّوح, ويصدّقه الجميع فورًا, حتّى ولو كان نصفه من نسج الخيال ونزق العبارة المارقة. لم أجنح إلى التكلّف والتقعّر في الوصف ولم أبالغ في الاسترداد, ولم أنتق كلماتي ولم أتكلّف. كنتُ أحسّني وأنا أكتبُ مثل آلة يابانيّة متطوّرة الإمكانيات, تعدّل وتضئ أكثر وتزّين وتتدخّل في الألوان وتخفي تجاعيدًا أو بُقعًا وتؤطر وتقصّ وتوزّع الخطوط, ولكنّها تنطلق من الواقع الفجّ وتحاصر فعلا صورة حقيقيّة, هي الأصل والمنبع، وزاد عشقي لشارلي شابلن وعبقريّة البساطة النافذة في تشخيصه مع كمّ المرح المذهل والعمق, من ترسيخ قناعتي بأنني لم أخلق فقط لكي أكون ساردًا, ولكن لأن أكون ساردًا ساخرًا مَرِحًا تحديدًا. بعد ذلك توالت القصص التي كتبتها وتراكمت بين دفتي أغلفة ورقيّة, وتحوّل بعضها إلى خطوط رئيسة لرواية وبعضها إلى نصّ من الفُصوص تؤجل كمخطوط ...وهكذا بدأتُ.

أظنّ أنّ تأثّر الكاتب الشاب بالكتّاب الكبار, شيء ضروريّ جدًّا في البداية, فهذا هو الطريق الشرعي لكي يكون في أمان, ويمضي صوب تحقيق اسمه وترسيخ رسمه والدّخول في دائرة الضّوء حتّى يعتاد على القناعة والإيمان الكامل بأنّه خُلق لكي يكون كاتبًا. أكرّر وأصرّ أنّ ذلك ضروريّ في البداية فقط... ولكن بعد ذلك, ومع تجمّع نصوصه والاكتفاء بما نُشر منها, عليه قبل أن يُصدر باكورة أعماله, أن يحاصر نفسه ويسائلها بقسوة ويبحث عن المندسين في قلمه وذاكرته وأسلوبه ولغته, وأن يخرجهم بلطف ويستغلّ كلّ المساحات الفارغة التي تركوها لطلاء نصّه بلونه هو وتأثيثه بلغته وقاموسه ومزاجيته هو: متجهّمة كانت أو مرحة... مستوفزة أو هادئة, حكيمة أو متهوّرة, المهمّ أن يتأكّد وبصرامة, وبدون تضليل بأنّ ما يكتبه هو خاص به هو ويحمل جينياته وليس جينبات غيره. وحينها فقط, سيرى معجزة النّحلة المتفرّدة حتى وهي بين القطيع, وهي تحوّل خام الرّحيق المرّ إلى عسلٍ مُصفّى. حلو المذاق, ومشبّع برائحة الزهرة. لكنّه أيضًا خاص به, ومختلط بكيميائه ومزاجه وعناصره… 

هذه خلاصة تجربتي وقناعاتي وحياتي كلّها في 777 كلمة.


💥 (كمال العيادي الكينغ) 💥



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق