الأربعاء، 29 يناير 2025

ذعر في الظلام | قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

 ذعر في الظلام | قصة قصيرة


لم يكن من المقرر، في ذلك اليوم من أيام طفولتي، أن أخرج لأول مرة في رحلة قصيرة، لرعي ناقتين على ملك جارنا أدهم. بالنسبة لي، لم يكن ثمة سبب يدعوني لخوض تلك المغامرة سوى شغفي بركوب الناقة، والنظر من علو ذروتها إلى الأسفل، وهي تتهادى في سيرها كالسفينة في عرض البحر.


سرتُ وابن جارنا، وصديقه نحو الوجهة المنشودة. وبعد قرابة ثلاثة أرباع الساعة، وصلنا إلى المرعى، حيث السباخ الواسعة، والمساحات الشاسعة، والفضاء الريفي الممتد الذي يبدو وكأنه بلا نهاية...


مع حلول المساء، شددنا الرحال للعودة، حين بدأ الجوع ينهشنا. قال ابن جارنا:

"علينا أن ننتظر قدوم الليل، لنبحث عن مبرك آمن للناقتين ندعهما فيه، وبعد أن نفوت وقت عودة العمال الفلاحيين من حقولهم، نمضي لتسلق النخل، وقطف حبات تمر نسد بها رمق الجوع."

استحسنا الفكرة كثيرًا، وبقينا ننتظر لحظة البدء في تنفيذ الخطة. وبعد مضي وقت كنا نعتقد أنه كافٍ، ليجعلنا في مأمن من كل المفاجآت غير السارة، سرنا بخطى حذرة نحو ذلك المكان الموحش المهجور، حيث تنتصب النخلات وسط سكون عميق، وبجوارها بئر قديمة تخترق أعماق الأرض، وقد استوطنتها أسراب الحمام التي لا تني حركتها تنساب بهدوء، ودون ضجيج، وكأنما المشهد يروي حكايات وأساطير، يضيع صداها في أعماق الزمن الغابر...


شرعنا نتسلق النخلات، حين صدح صوت عباس، على بعد أمتار من المكان:

"من هناك؟"

فاجأنا وجود ذلك الشخص في ذلك التوقيت المتأخر، حيث كنا نعتقد، عن يقين، أنه ومن رافقه من شباب الدوار المجاور، قد عادوا إلى بيوتهم، كما كان متوقعًا، مع غروب الشمس...

كأن الأرض تزلزلت تحتنا، فلم نلبث أن قفزنا بأصوات مكتومة، وانطلقنا نحاول الفرار من رعب يطاردنا بلا رحمة...


وألفيتني أركض في الظلام، لا أدري في أي اتجاه ... لم أكن أسمع سوى دقات قلبي المتسابقة في صدري، وخطى متسارعة تلاحقني، وصوت عباس يقرع أذني:

"إلحق به يا عمران... لا تدعه يهرب!"

جريت، وجرى عمران خلفي، كنمر يطارد فريسة... أنفاسه المتلاحقة تقترب مني، تكاد تلامس عنقي، تربكني، وتقيد حركاتي. كنت أتمنى، آنذاك، أن أحلق في الفضاء، وأطير إلى حيث لا يكون هناك أي أثر لي سوى الريح...


 لا أدري كيف زلت بي قدماي، لتلقيا بي في حفرة... أحسست وكأن الدم قد تجمد في عروقي... ونظرت، فإذا عمران بطوله الفارع، ينحني من فوق تلك الحفرة، وقد تراءى لي في عتمة الليل بياض أسنانه اللامعة، وبرزت لي عيناه مفتوحتين على اتساعهما، ليتضاعف خوفي، وتتزايد دقات قلبي المفزوع... تململت يمنة ويسرة، محاولًا الإفلات، لكن إصرار عمران على الإمساك بي، وصلابة قبضته كانا هما الأقوى...


وقفت هكذا، مكبلا، حتى حضر عباس، فٳذا به يندفع نحوي، ليهوي على خدي بصفعة قوية مؤلمة، قبل أن يزأر في وجهي، ويأمرني بالرحيل على الفور...


لم ألبث أن انطلقت، كأرنب مذعور، أعدو وسط حقول غارقة في الظلام، متسللاً بين الأشجار التي بدت بهاماتها وكأنها تمتد، بعناد مخيف، نحو السحاب، ثم لا تلبث أن تتحول إلى أجساد عملاقة، تهتز وسط الفجاج التي لا يسمع في أرجائها غير عويل الرياح، ونعيق البوم والغربان...


فجأة، بدأ المطر يهطل بغزارة. وسرعان ما غزت برك المياه الحقول، وغدت متتناثرة بين الأفق والسماء المظلمة، وقد انعكست عليها، بين الحين والآخر، ومضات البرق اللامع...


لم تكن صورة عباس لوحدها تطل من مخيلتي، بل صرت أرى أطياف ذئاب جائعة تكشر عن أنيابها، وثعابين تتلوى كالظلال المسمومة، وأشباح تنسل من المقبرة القريبة، تهتف منادية باسمي بصوت رهيب، ومتقدمة نحوي ببطء مميت...


في ليلة غاب فيها القمر، ومعه غابت أصوات رفيقي اللذين فرا إلى وجهة لا أعلمها... 

وعلى مسافة خطوات قليلة، بدا لي شبح طويل يقترب ...

و سرعان ما لمع البرق، ليبدد العتمة، وتتكشف ملامح ذاك القادم بوضوح...

 لم أتمالك نفسي، وقد اختلج قلبي بقوة، فإذا بي أنفجر صارخًا، بصوت يشوبه الفزع  :

"أبي!"


___✍️ الهادي نصيرة | تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق