" كلمات تولد من ضلع حواء " مجموعتي الشعرية تحت المجهر في قراءة للشاعرة و الناقدة فاطمة عبدالقادر .
" عنوان القراءة: لطيفة الشامخي شاعرة النستالجيا
كلمات تولد من ضلع حوّاء
مجموعة شعرية ب مائة وستة وستين صفحة . ..نصّ علا على سطر الشّعر
خاضت فيه الشّاعرةُ رحلة وجودية وعاطفيةً وانسانيةً حدّ الامتلاء فوُلد الخطاب على شفاهها مزدحما بالصّور والمعاني والدلالاتِ الّتي جنّحت بها من مساحاتها إلى مساحات الوجود .
نحن أمام شاعرة يقدمها نصها الضاجّ بالحركة والمعنى ، لوحةٌ ثمينةٌ من الشِّعر أو هي على حد قولها (جدارية في رواق واقع معتل )ولك أن تتخيّل معاناة الفرد المنطلق في سجن المجموعة
العتبات الأولى: العنوان جملة اسمية تقريرية تجمع مشتقّات الأنثى(الولادة والضّلع وحوّاء )على غلاف من وهج مع صورة انطلاق وانعتاق وانفتاح على الدّنيا بالكلمات ،يؤكده سرب الطيور المنطلق من سجن الصّمت.
تخلت الشّاعرة عن الرّحم كوعاء للحمل وانصرفت إلى الضّلع مركزِ الشعور وموطنِ الاحساس لتجعل من كلماتِها أجيجَ شعورٍ وحسٍّ
إن المجموعةَ الشعريّةَ للطيفة الشامخي حديقةُ وجدانٍ وشعورٍ وأرجوحةٌ للحظاتِ عشقٍ وجنونٍ ...شاعرةٌ كتبت نصَّها على صهوة الشّوق والحنين والغياب والقلق ...فجاء الكتاب رسائلَ عشق وأرقٍ وبرقياتِ عتاب وحنين ، ومدوّنةَ خطى ومسافات ومواقفَ إنسانيةً ورؤى فكريةً ووجوديةً
هي شاعرة تراوغ اللّغة لا حدود لحرفها . أنثى مطرّز ثوبها بالكلمات تقول في أول قصيد من الكتاب (انتعل لهفتي/اتعطّر بالشوق/وألبس ثوبي المطرّز بالكلمات).
ويمكن أن نسجل في هذا المؤلف ونحن نتصفّح فهرسه ونتعرّف على عناوين القصائد فيه قبل الدخول اليه ميلَ الشّاعرة إلى ترسيخ مناخ شعري عام دون التمسّك بتيمة معينةٍ أو اتجاه فكريّ طاغ، إذ أنها خرجت من قصائد الذّات إلى الواقع ومن الرومانسية إلى الواقعية تقبض على اللحظة تحوّلها صوتا وصمتا وصدى.
لطيفة الشامخي مسلحة بأدوات الابداع تُنوِّعُ معجمَها وتشكّل عالمَها وتراوحُه لتصنعَ لوحةً خاصةً بها فقد جمعت في نصوصها مفرداتِ الزّمن بتقاطيعه والطبيعةِ بظواهرها والعمرِ بمراحله والغيابِ بوجعه والأرضِ بثمارها وجداولها والسّماء بشروقها وبروقها
كما عالجت في نصوصها قضايا حارقة ًكالوطن و الرغيفِ والإنسانِ الكادح والطفولةِ وموت الرّضع والموتِ وفلسطين والعراق٠ و ظلم الاعتقالِ وسيرةِ الابطال والحق والحرية والعدالة.
تتجاوز الشاعرة في تناولها للمفردات الاستعمالَ المألوفَ فهي تقوم بإخفاء دلالاتها الأولى والاحتفاء بدلالات جديدةٍ لها غير قابلةٍ للتخاطر الذهنيّ بين الشّعراء فيمنح هذا التجديدُ نصَّها أحقية البنية الأسلوبية التي فرضتها على المفردات والالفاظ المشحونةِ بطاقةِ ذاتِها ،فهي إذا تتجاوز الرمزيةَ العامة للكلماتِ إلى رمزيةٍ خاصةٍ بها تعبر عن ذاتِها وتجاربّها .هذه المفرداتُ وتكرارُها دليلٌ على عمق وجودِها في حياتها وسبيلٌ نحو تيسير دراسة تجربةِ الشّاعرة من أجل تقديمها وتصنيف إبداعها.
...
جاءت هذه النّصوص بلغة جميلةٍ مدهشةٍ ،بل فاق الإدهاشُ في نصوصها حدودَ المتوقّع بصور لافتةٍ بجدّّتها بعيدةٍ عن التّقليدِ، نورد هنا بعضًا من تعابيرها الآسرة وخيالِها الواسعِ المثيرِ تقول ...(تتلصّص الأرصفة وتتحرى مقاساتِ نعلي /أتصيّد الماء شفاء لجرحي /وهذي الظلال تنساب على كتفي /وليس لي ما أقول غير وجبة بائتة من الكلام )
.نصوص لطيفة الشامخي وليمةُ كلمٍ و جمال ومحورٌ لفكرةٍ ترقص في خيالِ ذاتٍ مفكّرة تتجاوز المنطقَ والمعقولَ لتحلَّق وراءه في قصائدَ سرياليةٍ تتّقد جرأةً وعبورًا..
هذه الوليمةُ وهذا الكلامُ الغزير الذي خرج من ضلع الشّاعرة متأجّجا بالشّعور رغم غزارته تقول عنه (وليس لي غير وجبة بائتة من الكلام (101)
استعملت لطيفة الشامخي في قصائدها البناءَ القصصيَّ والحوار الداخليَّ (المونولوغ) والارتجاعَ الفنّيَ حسب مضامينِ القصائدِ واحتياجاتِها ، تتصاعد من نصوصِها أجراسُ موسيقيةٌ بعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن التّقطيع والنّظم والبحور ،هي أجراسٌ لإيقاعٍ داخليٍّ عزفته الصّورُ ودلالاتُ المعاني والتّراكيبُ وجِدّةُ الكلمات .
طغت على معجمِ الشّاعرةِ مفرداتُ الزّمنِ و العمرِ والوقتِ فاعتبرت الزمنَ مشروخًا والعمرَ ضيقاَ والوقتَ له مذاقُ الحالةِ التي تعيشُها
تقول (وانا لا أملك لحظتي الحاضرة ولا لي ماض سعيد )
وتقول هذا الليلُ مسكونٌ باليأسِ يصفعني كما تقول (أعاتب سهدي وليلي الطويل )
تلاعب لطيفة الشامخي الماضي والحاضرَ تأسف تارةً لانقضاء اللّحظات فترتجي عودتها تقول (ليت الوقتَ يتمرّد في دورة واحدة إلى الوراء )وتدوس تارة على الماضي تستجدي غدَها تقول(والنداء بداخلي يستجدي غدي ) كما تحمل الشاعرة ألم النفورِ بينهما فتقول (يزدري الماضي اللحظةَ الآتيةَ)ص49لم يكن هذا التقلّبُ في الرأي والمبتغى وعدم الثبات على المواقف إلا وليد حالاتٍ من القلقِ طفت على ليل الشّاعرة وشعورِها.هذا التقلّب هو الناموس الذي يحكم ذوات الشعراء ويزحف بأقلامهم نحو الورق
.يطغى الحزن على نصوص الشاعرة فتوثق لحظاتِه في فصول من التمرد تارة وتارة في نصب واستسلام فتخاطب هذه الأحزانَ الطافيةَ على عمرها بقولها ( أيّتها الأحزانُ الراقصةُ على طبول مواجعي )ص59 بل إنها تصرّح أنها القادمة من وطن الأحزان فتقول (لماذا يسكن قلبي كلّ هذا الألمِ وهذا النزيف ؟احاول ان ارتق ثقوبه دون مرفين .....وإذا بالآخرين يعتّقون الوجع ) ص 108
كما كتبت لطيفة الشامخي عن المسافات الفاصلة بين قلبها والمرادِ تقول (ما أوسع مسافة يتوسطها صداع السنين )وتقول (بداخلي تركض مسافاتُ عميقةٌ ،يتصاعد الى راسي الغبار ) وتقول عاجزة (كيف استعيد خطواتي المكبلةَ بالرصاص)ص109
(تتسع المسافات بيني وبيني )
تخلّف هذه الأحزانُ والمسافاتُ غربةً بروح الشاعرةِ تسكبها في فصولِ وجع فتقول (أواجه بغيبوبة المحتضر غربتي في فصل الجفاء ص57وتقول (يمتد الحاضر امامي فارغا ص56 .
كثيرا ما استدعت الشاعرة طفولتها مناجية إياها بقولها(يا بؤرة البياض بين أضلعي ) هذا البياض الذي نما على الخرافة وحكاياتِ السّمر وعرائس البحر وملوك الجان ) بياض ٌسكن ذاكرتَها واحتل منها ركنا واسعا لذا نجدها تعتذر من طفولتها التي خانتها حين كبرت تقول(لو تعلمين أنني خنتك لأنني أردت أن اكبر) هذه الطّفولة المائسة في ذاكرتها ترشح عاطفة و فرحا وترقد آمنة تحت شجرة التّوت في صندوق الذكريات.وكم كررت الشاعرة في نصوصها مفردات الذكريات و الذاكرة والذكرى لعلها تصر بتَكرارها على أنها مخزون الكتابات ومنبت القصائد
للشّمسِ و الأقمارِ والنجومِ واللّيل والضّوءِ والماءِ وعناصرِ الطَّبيعةِ عموما حضورٌ بارز في قصائدِ الشّاعرةِ أبدعت في رصفها على سطور المناجاةِ تقول (أيتها الشمس الضاربة في النضال /باسم الضوء،باسم الماء باسم الغيم باسم الريح وباسم المطر /اعتقي وجهي من مشنقة الظلام /وفكي وثاق القصيدة )ص72
تمنح الشّاعرة الطبيعة معنى فلسفيا وتعتبرها مصدرَ الهام وهروبًا وملجأً آمنا من صخب العالم وقيوده.
كما تكشف لنا نصوص الشّاعرة شخصيتها فهي تارة امرأة ضعيفة تقول (والمرآة المشروخة تقهقه ساخرة من ضعفي )ص63 وهي ايضا حمامة مطوقة في قبضة الصيّاد تقول( من يحرر الحمامة المطوقة والسربُ في قبضة الصياد) وهي تارة امرأة صلبة يصعب على الرّجل بلوغُها وفكُّ احجياتها. هذا الرجل الحاضر في أغلب نصوصها مدّا وجزرا تناجيه في قسم كبير منها وتقصيه في بعضها مقلّلة من شأنه مقدّمة هبة الشّعر عليه واثقةً من قرارها وحضورها بدونه تقول في قصيد اعتراف :(سجل يا رجلا ..ما كنت إلاّ ظلاّ وكان الشّعر كلَّ رجالاتي )ص 97 .وهي لا تكتفي بذلك بل تعلن إنكارها وكل ما حولها له تقول (أيا رهين الصمت كل الأشياء،هنا تنكرك كما أنكرتها )ص69 هذا الرجل حاضرٌ أيضا في النّصوصِ البعيدة عن الوجدانيات.
وانت تبحر بين فصول الكتاب يمكن لك ان تجمع برتريه لطيفة الشامخي من مقاطع قصائدها فهي امرأةٌ استثنائيةٌ بحجم الكون أضلاعها اعمدة من مرمر ، تنساب ضفائرُها نهرا أزرق وهي احيانا امرأة من زجاج أو فخار تقول (فمن سيجمع اجزائي) تتشظى الشاعرة كلما حاصرها اليتم و الحزن و الغياب
تلج عوالم الرومانطيقية فهي شاعرة النستالجيا والحنين بامتياز تصرع الكلاسيكية على باب القصيد وتركب بساط الخيال
كما تخرجها هذه النصوص ذاتا مفكرة قلقة تزعجها الحقيقة الغائبة في جبّ الليل تقول (مطرقة الفكر تدق رأسي)هذه الأسئلة وهذه الافكار الوجودية تضع الشاعرة أمام لوحة الأقدار تستكين لها تارة وتارة تواجهها بسطورها الثابتةِ تقول (لعوب هي اقدارنا) كما تقول( وسخر منا القدر ) فترى بعد تحليل وسؤال واعتراض ان الحياة كذبةٌ تقول (وحده الموت حقيقة ) هذا الموت الوحش تراه شرها للحياة فتقول (شهية هي الحياة في عيون الموت) وهي ان قبلته كحتمية وجودية وكحقيقة ميتافيزيقية فهي تزدريه كفعل معتد على الجسد المشحون هوى ورغبات يقطع حبل الأنس والوصال.
كتبت لطيفة الشامخة في جل الأغراض .الرثاء والحنين والغزل والوطن وحبّرت قسما كبيرا في العروبة والمرأة العاملة والطفل وجائحةكورونا فجاء الكتاب ثريا،متنوّعا
كان لابد من تفكيك هذه القصائد واعادة تركيبها وفق قراءة متواضعة ارتأيتها ملقطا لأفكار الشاعرة ورؤاها وتوجهاتها حاولتُ بها إعادة إخراج النّصوص والإضاءة لها مركّزة على جانب الحنين فيها والوجدان.
أفلحت الشّاعرة في أسر القارىء بين سطورها وفي تقديم وجبة دسمة من الشّعر والفكر والوجدان كما نجحت في عرض لوحاتها الواقعيّة والسريالية في رواق الأدب وتقديم الإضافة في الساحة الثقافية ".
- فاطمة عبد القادر -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق