( أميتوا الباطل بالسكوت عنه )
في عالم يزدحم بالصخب،قد تبدو الكلمة كالسلاح، أو ربما كالقيد. وفي خضم هذا الضجيج، يبرز الباطل، متسلحاً برغبة جامحة في الانتشار، يستمد قوته من الترويج ومن تكرار الألسنة التي تلهج به، حتى وإن كان إنكاراً. وهنا، تتجلى الحكمة العميقة: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه."
الباطل لا يقوى بذاته، بل يستمد قوته من انتباهنا. هو كاللهب، إن لم يجد الوقود، خمد وانطفأ. كل نقاش حوله هو حطب إضافي، وكل محاولة لدحضه قد تكون في بعض الأحيان إحياءً له. فكم من فكرة وُئدت عندما تجاهلتها العقول، وكم من باطلٍ تعاظم عندما أُعطي أكثر مما يستحق من الاهتمام!
لكن السكوت عن الباطل ليس ضعفاً ولا استسلاماً، بل هو اختيار واعٍ للنأي عن دوامة الفوضى التي يخلقها. هو نوع من الحكمة التي تزن الكلام بميزان الذهب. ليس كل شيء يستحق أن ننزل لمستواه، وليس كل معركة تحتاج أن نخوضها. ففي بعض الأحيان، يكون أعظم انتصار على الباطل هو أن نتركه ليغرق في فراغه، دون أن يجد من يمد له يد النجاة.
إن السكوت عن الباطل ليس غياباً عن الحق، بل هو دعوة ضمنية للحق أن يزهر بصمته. فالحقيقة لا تحتاج صخباً لتفرض وجودها، بل يكفي أن تتجلى في أفعالنا، في تعاملاتنا، وفي صدق نوايانا. فالباطل بطبيعته هش، سرعان ما ينهار تحت وطأة الحقيقة التي تُعاش بصمت وتُجسد بنقاء.
لكن، متى نصمت؟ ومتى نُعلِن؟ هنا يكمن التحدي الأكبر. فالسكوت عن الباطل يكون حكمة عندما يكون الكلام عبثاً، ويكون تقصيراً إذا كان الحق يضيع بصمتنا. إنها معادلة دقيقة تحتاج إلى بصيرة نافذة، لنعرف متى نُميت الباطل بصمتنا، ومتى ننطق بالحق لنحميه من الضياع.
فلنترك للباطل فراغه، ولنعطِ للحق مساحته. لنجعل أعمالنا أصواتاً ناطقة، ودعونا نؤمن بأن للحق هيبته التي تتجلى دون ضجيج، وبأن الباطل، مهما حاول، لا يعيش طويلاً في غياب الاهتمام.
د. عمر أحمد العلوش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق