«(3)»حتى أنت يابروتس«(3)»
بقلمي : د/علوي القاضي.
... في الجزء ( الأول ) ذكرت أن المؤرخين إعتبروا أن إغتيال ( يوليوس قيصر ) على يد صديقه وإبنه بالتبني ( بروتوس ) ، يعتبر أشهر مواقف الخيانة والغدر في التاريخ الحديث ، وسبقه قتل ( قابيل ) أخيه ( هابيل ) في بداية البشرية ، وأوضحت وبينت فداحة الدمار الإنساني والنفسي والمجتمعي المترتب على الخيانة والغدر ، وبالذات فى الحياة الزوجية ( أسبابها والعوامل المؤدية لها ونتائجها واقتراح الحلول ) ، وفى الجزء ( الثانى ) أوضحت في قصة إغتيال يوليوس قيصر ، كيف أن الخيانة من الأقربين ، ماهى إلا طعنة فى الروح والضمير والمبادئ والشرف والنفس والقلب وليست فى الجسد ومايحزن الشجر إلا أن يد الفأس منها ، وتكون النهاية الحتمية لكل العلاقات ومظاهر الحياة
... ولأننا لسنا في المدينة الفاضلة ، فكم من بروتس الٱن يتواجد حولنا في كل مكان ؟! ، كم إنسان وثقنا به وأعطيناه مفاتيح قلوبنا وجعلناه مخزن أسرارنا ولم تأتنا الطعنة إلا من خلاله ؟! ، كم شخصا أوليناه عنايتنا ، وأودعناه ثقتنا ، فذبحها بسكين الغدر وتعلو وجهه علامات التشفي ؟! ، كم من حبيب جعلناه نصب أعيننا في العالم أجمع ، وأقمنا له تماثيل الوفاء في كل ميادين حياتنا ، فحطمها جميعها بدون أدنى مبرر ؟! ، كم من صديق ظننت من شدة إخلاصه لك أنه أخ لم تلده أمك ، ومن رحم أمك ، ولايفصله عنك سوى إسم لايساوى شيئا أمام أخوتكم الوفية ، ثم إكتشفت فجأة أن الرحم يلفظ حقا السيئ والحسن في أن واحد ؟!
... نماذج كثيرة جدا مر بها جل البشر علي تلك الأرض منذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة ، نماذج نظل مابقي من عمرنا نتساءل في كل لحظة من هم ؟! ، ولماذا فعلوا ذلك ؟! ، وهل كنا سذجا لتلك الدرجة ، التى حجبت وجوههم عنا ، وراء قناع الإخلاص والتفانى الذى ظلوا يلبسونه طوال الوقت أمامنا ؟! ، أم أننا ومنذ البداية نعى بعقولنا تمام حقيقتهم المؤلمة ، ولكننا دوما نتغاضي عنها ، ونرسم الوهم في عقولنا ، حتى لاتتضح لنا صورتهم السيئة ونخسرهم الى الأبد ؟! ، فعين الرضا عن كل عيب كليلة ، وعين السخط تبدي المساويا ، فالحياة من حولنا مملوءة عن ٱخرها ، وتعج بأحفاد بروتس الذين يغرسون خناجرهم في قلوبنا في كل لحظة ، دون إثم إرتكبناه أو ذنب نستحق عليه طعناتهم ، والأدهى من ذلك أنهم يغلفون خيانتهم لنا ، بغلاف البراءة فيسوقون المبررات والحجج الواهية والكاذبة ، لتبرير فعلتهم تلك ، بل ويصور لهم شيطان أنفسهم بأنهم الضحية وليسوا الجناة ، ويستمرون في رحلة الكذب حتى يصدقوا أنفسهم ، فماذا نفعل في أشباه بروتس المتواجدين حولنا في كل مكان ؟! ، هل نفقد الثقة في كل من إقترب منا ؟! ، أم هل نتلفت حولنا في كل لحظة متربصين لطعناتهم ؟! ، أم هل نحيا في عزلة دائمة ، تكفينا شر طعنة غادرة تأتى من أحدهم في حين غفلة وثقة منا ؟!
... أخي الكريم ، عليك دوما أن تختار طريقتك في الحياة ، بدلا من إنتظار طعنة نافذة في القلب ، ترسم علي وجهك كل أمارات الألم والحسرة والذهول وأنت تلتفت إلى فاعلها مرددا الجملة التى نطق بها يوليوس قيصر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ( حتى أنت يا بنى ؟! ، حتى أنت يابروتس ؟! ) ، وكلك مرارة وألم وحسرة وندم يوم لاينفع الندم
... وكما قال شكسبير ( أحيانا لاتحزنك الكلمات التي تقال عنك بمقدار حزنك عندما تعرف من قالها )
... والأدب العربي لم ولن يخلوا من تناول هذا الموضوع لأهميته في التحكم في السلوك المجتمعي والعلاقات الإنسانية
... فصاحة العرب عن الغدر والخيانه ، تبدوا جلية في قصة ( لَمَّا اشْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني ؟! ) ، يحكي أن رجلآ من العرب ربى إبن أخته ، حتى كبر وصار فتيًا قويًا ، فلما أحس الولد من نفسه القوة والقدرة ، تنكر لمربيه ، وأخذ يرد جميله نكرانًا وكفرًا وجحودا ، فقال الرجل في ذلك بعض الأبيات الشعرية :
فَيَا عَجَبًا لمن رَبَّيْتُ طِفْلاً *** ألقَّمُهُ بأطْراَفِ الْبَنَانِ
أعلِّمهُ الرِّماَيَةَ كُلَّ يوَمٍ *** فَلَمَّا اشْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ الْقَوَافي *** فَلَمَّا قَال قَافِيَةً هَجَاني
أعلِّمهُ الْفُتُوَّةَ كُلَّ وَقْتٍ *** فَلَمَّا طَرَّ شارِبُهُ جَفَاني
رَمى عَيني بِسَهمٍ أَشقَذيٍّ *** حَديدٍ شَفرتَاهُ لهْذَمانِ
توخّاني بِقَدحٍ شَكَّ قَلبي *** دَقيقٍ قد بَرَته الراحَتان
فأَهوى سَهمه كالبَرقِ حَتىّ *** أَصابَ به الفؤادَ ومااتَّقاني
... وفي الأدب أيضا يقول الشاعر :
يخونُكَ من أَدى إِليك أمانةً *** فلم ترعهُ يوماً بقولٍ ولافِعْلِ
فَأَحْسِنْ إِلى من شِئْتَ في الأرضِ *** أو أسيءْ فإِنكَ تُجْزى حذوكَ النعلَ بالنعلِ
... ولم يغفل الأدب العربي قصة ( الذئب والشاة ، بقرتَ شُويهتي وفجعتَ قلبي ، وجزاء الإحسان إلى اللئام ) ، يقول الشاعر :
بقرتَ شويهتي وفجعتَ قلبي *** وأنت لشاتنا ولدٌٌ ربيب ُ
غذيتَ بدرها وربيتَ فينا *** فمن أنباكَ أن أباكَ ذيب ُ
إذا كان الطباع طباع سوء ٍ *** فلا أدب ٌ يفيد ولا أديب ُ
... وإستكمالا للمعنى يروى أيضا :
نشأت مع السخال وأنت جرو *** فما أدراك أن أباك ذيب
... وفي كتاب ( المحاسن والمساوىء ) لابراهيم البيهقي يقول : ونحن في دروس شيخنا العلامة ( مقبل الوادعي ) رحمه الله ، كثيرا ماكنت أسمع شيخنا رحمه الله يردد هذه الأبيات ، مستشهداً بها على بعض طلابه اللئام ، الذين تنكروا له وتحزبوا فيما بعد ضده ، وطعنوا في شيخهم ومربيهم ومعلمهم الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله
... والقصة ، أن أعرابية وجدت ذئبا ً صغيراً ( رضيعا ) ماتت أمه ، فحنت عليه وأخذته وربته وكانت تطعمه من حليب شاة ٍ عندها ، وكانت الشاة بمثابة الأم لذلك الذئب ، وبمرور الأيام ، كبُر الذئب الصغير ، وعادت الأعرابية يوماً إلى بيتها ، فوجدت أن الذئب هجم على الشاة وأكلها ، فحزنت الأعرابية على صنيع الذئب اللئيم ، الذي عرف طبعه بالغريزة والفطرة ، فأنشدت بحزن تلك الأبيات ُ
... وهكذا اللئام في كل عصر ومصر ، لايوفوون الجميل ولايراعون حرمة الخليل ، ولايردون المعروف ولايرهبون الحتوف ، فاحذر من مصاحبة اللئيم وإكرامه فلن يجدي معه أي تكريم
... ولأنه تغلب علينا الطيبة والتسامح ، فبعد الخيانة والغدر ، ربما نسامح أشخاص قد إنتهت رحلتهم معنا ، وقد نقبل إعتذارهم ولكننا لن نعود كما كنا سابقاً ، نعم نسامح ، ولكن سوف نبني جدارا يحمينا من الألم النفسي ، نسامح لأننا نريد تجديد قلوبنا ، ونبغي صفاء نفوسنا ، وأن تستمر حياتنا بدونهم ، فالحياة قبل كل شي مبادئ وأخلاق ، فمن شب على شيء شاب عليه ، فالخيانة طبع وأخلاق وتربية وليست ظروف ، هذه هي الخيانة وهذا هو الغدر
... من أمنك لاتخونه حتى ولو كان في طبعك الخيانة
... واتق شر من أحسنت إليه
... تحياتى ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق