الكتابة مسؤولية ضميرية..أو لا تكون..
حين أكتب،لا أقتفي أثر كتاباتي،ولا أسأل ما إذا كانت قد وصلت إلى المتلقي أو حادث عن الطريق..الكتابة ليست هواية..الكتابة كما يقول الراحل حنا منا " مهنة الأشقياء"..!
لا أذكر يوما سألت هيئة التحرير عن مقالاتي،وهل "صنصرت" أو أسقطت من غربال المحاباة..ورغم أني كنت رئيس تحرير أول لإحدى الصحف الشرق وسطية الرائدة في تسعينات القرن المنصرم،إلا أني كنت دوما أصغي لنداء الضمير،وأتعاطى مع النص الإبداعي بمسؤولية ضميرية دون الإصغاء-لوشوشات-حفاة الضمير وكل راكبي سروج الإبداع..ممن يلهثون خلف الأنوار والنجومية الزائفة..
من أهم أسس الكتابة ذلك الإحساس بأن الكتابة ليس ممارسة استرخائية،أو سهلة المنال،أو النظر لها على أنها ذات طابع تطهيري فحسب،على الرغم من عدم إنكار دورها تبعاً لآراء أرسطو.
أيها القارىء الكريم :الكتابة تُعطيك فرصةً لاكتشاف نفسك حتّى وأنتَ في قمّة ألمك،تُساعدك على تفسير الأمور والحياة،بطريقة لم تكن لتدركها لولا أنّك خطَطْتَ أحاسيسك على الورق،ليست وصفة علاجيّة بالتأكيد،ولا يُمكن لها أنْ تمسح آلامك أو تنهيَها،ولكنّها تجعل لألمك معنًى وتضعه في مكانه الصحيح كامتحان قاسٍ من امتحانات الحياة الذي قد لا تخرج منه على قيد الحياة لكن تبقى على قيد ذاكرتها.
معظم الكتّاب نجَحُوا في استخلاص مادّة جيّدة للكتابة مِن حياتهم البائسة،كنوع مِن التصالح بين الكاتب والحياة،على شكل نصوص خالدة تحفظ اسم كاتبها للأبد،لم يكُن الألم وحده مَن صنَعَها لكنّه مَن صقل الموهبة وكمّلها.فأفضل الأعمال العالميّة كتبَها مُتألِّمون كفعل مقاومة،وأحيانًا كفعل ثورة.وأحيانا أخرى..كفعل تمرّد..
الكتابة لا تقتصرُ على محدوديّات،نضعُها في إطار فوائد،أو نقاطٍ في كتابٍ مدرسيّ. (الكتابةُ الإنسان. الكتابةُ التاريخ. الكتابةُ الحياة)، أو كما يقول هرمان هيسه*: “دون كلماتٍ أو كتابةٍ أو كتب لم يكن ليوجد شيءٌ اسمه تاريخ،ولم يكن ليوجد مبدأ الإنسانيّة”.
ما بين تجاذب الأكاديمي والإبداعي-أراني أتموقع-حسب المقاوم وشروطه.ذلك أنّ الكتابة الأكاديمية تحيل على صرامة شروطها ومحدداتها،فالسسيولوجيا علم له ضوابطه الصارمة التي قد تقدّم نصا أكثر ميلا للموضوعية،لكن النص الإبداعي هو تعبير عن الإنفلات من برودة”العلمي” نحو دفء الأدب وانزياحاته الفنية الرائعة.هو محاولة للتحليق في سماوات الرموز بكل حرية وتمرد أحيانا.ومما لا شك فيه أن التلاقح يحضر بهذه الدرجة أو تلك علما أن الكتابة هي نوع من الرحيق الروحي الذي هو بمثابة عصارة شاملة للذات الكاتبة فكرا ووجدانا وتكوينا ومزاجا حتى.. الكتابة بمعنى آخر..بلسم للرّوح حين تتشظى..
إن اللغة الجيدة من الأدوات الأساسية للكِتاب الجيد،وإتقانُ اللغة من اشتراطات التأليف،وضعفُها أو عدم اتقانها يحول دون تمكّن الكاتب من التعبير عن أفكاره.وللأسف،يوجد مِن الكُتّاب مَن لا يؤمن بهذا الحتمية،بل يُعوّل على المُصَحِح اللغوي،بينما هو يكتب بلهجة عامية أو عربية مُكسّرة.ومثل هؤلاء لن يكونوا في صفِّ الكُتّاب الجيدين مهما أعانتهُ وسائلُ التواصل أو وسائلُ الإعلام.وقد أضرب أمثلة كثيرة في قادم المقالات..!
عدم الإلمام بتصنيف مادةِ الكِتاب،نظرًا للتهافت على الشُهرة التي تُضاف إلى الوجود الاجتماعي أو المالي! ولقد شهِدنا إصداراتٍ يصعبُ تصنيفُها! فبعض الكُتّاب لا يدرك ما يطبعه،هل هو قصة،أم رواية،أم خواطر،أم مقالات سبق نشرُها،أو سيرة ذاتية للترويج عن الذات،أم وثائق رسمية كان قريباً منها..!
الكتابة-شقاء-ومعاناة..ولكنها أولا وأخيرا..مسؤولية ضميرية أو لا تكون..
وأرجو أن تستساغ-مقاصدي-جيدا،وأن لا يقع إخراجها عن سياقها الموضوعي..!
محمد المحسن
*هيرمان هسه (بالألمانية: Hermann Hesse) ولد في كالف في ألمانيا في 2 يوليو/جويلية 1877 وتوفي في مونتانيولا تيسن عام 9 أغسطس/أوت 1962،وهو كاتب سويسري من أصل ألماني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق