الخميس، 4 يوليو 2024

المتحذلق.../ قصة قصيرة بقلم الكاتبة ليلى المرّاني/ العراق

 المتحذلق.../ قصة قصيرة

ليلى المرّاني/ العراق

أصبح حضوره من الثوابت التي اعتادها رواد مقهى - الواحة - الذي يقع في نهاية شارع طويل تحفّ به من الجانبين أشجار الكالبتوس والدفلى، يخترق وسط المدينة منعطفاً إلى ساحة ترابية واسعة اتخذها أولاد الحيّ ملعباً لكرة القدم، كان عليه أن  يمرّ بهذه الساحة ويسمع تعليقات الصغار وضحكاتهم الصاخبة وهم يشيرون إليه بأصابعهم، يسحب قبّعته السوداء على وجهه ويحثّ الخطى مبتعداً وهو يلعنهم، يدخل المقهى، يبعثر نظراته في أرجائها متفحّصاً، أحدهم يهمس لزميله، " ها قد حضر ذو القبعة السوداء ! "

يتّخذ مكانه المعتاد، يضع حقيبته السمسونايت المهترئة على المنضدة، ويشير بإصبعه إلى النادل بحركة مسرحيّة، " شاي وسكّر زيادة.." ، يحتفظ على كتفيه بمعطفه الأسود الطويل الذي يحاكي حقيبته قدماً، يفتل شاربيه الطويلين، ثم يبالغ في إظهار خصلات شعره المتدليّة من قبعته، تجوب نظراته المتفحّصة أرجاء المكان حتى تقع على الشاب النحيف الذي يقبع دوماً في زاوية المقهى سارحاً، وأمامه كتاب ضخم وحزمة أوراق وأقلام ملوّنة، وثمة قطةٍ سوداء ضامرة تتمسّح بقدمه، بازدراءٍ يتساءل، " ماذا تراه يرسم، ولماذا ينظر نحوي بين حينٍ وحين…؟! "

سرعان ما تحلّقت حوله شلّة من روّاد المقهى الذين أصبحوا مرافقين له، ومنزلة خاصة أصبحت له في قلوبهم، وصلت حدّ الإيمان المطلق بكل ما يقوله ويدّعيه، رغم تساؤل حائر لا يجدون له إجابة، " من يكون هذا الرجل الغامض..؟! "

شريف، أشدّهم إعجاباً وتحمّساً لمواعظه، حتى أنه كسر أنف زوجته يوماً حين طلب منها أن تلحق به إلى الفراش، رفضت إذ كانت ترضع صغيرها.." ألم يقل الأستاذ ثابت أن المرأة كالمهرة الجامحة، عليك ترويضها، حتى لو كسرت أنفها.."، ويفتل شاربيه الغزيرين..

أحدهم يسأله بفضول:

— ماذا تحمل في حقيبتك، استاذ ثابت؟ ليتك تفتحها يوماً لنرى..!

بشيء من الامتعاض، ينفث دخان سيجارته في وجوههم، ثم بصوتٍ مخدوش يغمره غموض مفتعل:

— أشياء كثيرة.. سقراط، كونفشيوس، سارتر، المعرّي، مارلين مونرو، طه حسين، الحلاج، دي كارت، ابن بطوطة، ماركس، جاسم أبو الطلايب، وحتى حسنة ملص…( ١ )

يصيبهم الذهول، ونظرات متسائلة تنغرز في وجهه، بانفعال يهتف أحدهم،

— حتى حسنة ملص..؟

يفتل شاربيه بزهو، وتنزلق الكلمات من فمه ،— نعم، نعم، حتى حسنة ملص، وحتى بدرية الدگاگة…!

ويقهقه بصوت كالرعد؛ فيجاريه الآخرون وابتسامات بلهاء تفترس وجوههم، يتساءل أحدهم بسذاجة،

— من هي حسنة ملص...؟

فيتغامز الآخرون، وتعلو قهقهاتهم، ينهض الشاب المنزوي مغادراً، يلتفت ناحيتهم ويرمي ورقة ملفوفةً على منضدتهم، تتلاقفها الأيدي، لكن يد الأستاذ ثابت كانت الأسرع، يفتحها، ينظر بإمعان إلى الوجهين المرسومين على الورقة؛ وجه امرأةٍ في مقتبل العمر، مطليّ بأصباغ صارخة وقد كشف ثوبها عن نصف نهديها وهي تغمز بعينها اليسرى، إلى جانبها وجه امرأةٍ عجوز نخرت التجاعيد وجهها، لم تستطع الأصباغ أن تخفي ذبول وشحوب بشرتها، وغمزة عينها اليسرى تكاد تسقط في فمها، تحتهما كتب بخطّ أحمر، - حسنة ملص، قبل.. وبعد.. -

تغمره الدهشة، يهتف الأستاذ ثابت،

— من هذا الشاب...؟

— عاصم، ابن الحاج محمود، التاجر المعروف، طالب جامعي فاشل، لكنه يعشق الرسم..

آخر يقول:— أجبره والده على دخول كلية الإدارة والاقتصاد كي يساعده في إدارة أعماله.. ولكن، كما ترى..!

ويقلب شفتيه ساخراً، يدقّق الاستاذ ثابت في الوجهين، وينطلق صوته وكأنه يلقي موعظةً مهمّة..

— يا للمرأة..! كم فيها من خداع ومكر..

ثمّ بمرارة مفتعلة:— جميع النساء أفاعٍ ملساء ناعمة، لا تعرف متى تغرز نابها في رقبتك وتنفث سمومها..

يتحسّس الرجال رقابهم بامتعاض..!

— ألم تتزوّج، أستاذ ثابت..؟

— أنا..؟ معاذ الله، كيف أضع رقبتي تحت سيف جلّاد؟ كيف أنام الليل وإلى جانبي أفعى سامّة، لا أدري متى تنفث سمومها في جسدي..؟!

ويتململ الأصحاب، وتقفز إلى رؤوسهم صور زوجاتهم أفاعٍ سامّة تنتظر فرصتها للانتقام، يوزّع نظراته ساخرة على وجوههم وقد تهدّلت شفاههم وضجّت دماؤهم في عروقهم حدّ الوجع، يفتل شاربيه الطويلين بفخر، كطاووس أمام أنثاه، وبصوتِ تقصّد أن يسمعه كلّ من في المقهى،

— عليكم أن ترعبوا هذه الأفاعي..

— كيف...؟

— أطلقوا شواربكم، دعوها تغطّي ذقونكم..

ويبتسم بخبث،— المرأة ترعبها الشوارب الطويلة، تحسب لها ألف حساب ..

فجأةً، يغيب الاستاذ ثابت، يوم، يومان، ثلاثة؛ فيقلق الأصحاب ويتساءلون، لا أحد يعرف له طريقاً، كنبتةٍ شيطانيّة انغرس بينهم يوماً دون سابق إنذار، لم يشأ أن يطّلع أحد على خصوصياته، ومنها محلّ سكناه. كان يوماً عاصفاً يكاد يقتلع أشجار الكالبتوس، وأشجار الدفلى حنت رؤوسها صاغرة، البيوت تغرق بعتمة ليلٍ موحش، والبرد أخذ يتسلّل إلى العظام، والرفاق ما زالوا ينتظرون..

— ماذا حدث للأستاذ ثابت، منذ أيامٍ لم يظهر…

يضحك الشاب الفنان في سرّه هازئاً، " لو تعلمون.. آه، لو تعلمون..!"

— ألا يعرف أحدكم له طريقاً..؟ يتساءل أحدهم

ينظرون إلى بعضهم، ينفخون دخان سجائرهم كثيفاً، يثقل فضاء المقهى الصغير، تتحشرج أنفاس ابن الحاج محمود، يختنق بنوبة سعالٍ حاد، ويلعنهم، يحمل أوراقه وكتابه، يقف متثاقلاً أمامهم،

— هل ترغبون بزيارته..؟

— مَن..؟

— الأستاذ ثابت، مَن غيره..!

في طريقهم إليه، يلزمهم صمت ولهاث مذعور، وعصف الريح يعوي كذئاب مسعورة، يكاد يقتلعهم، وسؤال أبله يفترس وجوههم المتقلّصة، لكنه يبقى حبيساً في أفواههم، " كيف عرف هذا الشاب المتعجرف طريق الأستاذ ثابت..؟"

في دار عتيقة يسكنها زوجان مسنّان، كانت غرفته، الباب نصف موارب، ينبعث مزيج من روائح نفّاذة تزكم الأنوف، يدخل عاصم أولاً، ثم وبخطىً متردّدة يدخل الآخرون، ضوء خافت ينبعث من مصباح صغير يتدلّى من السقف، علب سجائر وزجاجات بيرة فارغة تتناثر في الارجاء. تستقرّ الأعين المتسائلة، الباحثة بلهفة على سريرٍ خشبيّ، يقتربون أكثر.. يا للهول!.. الأستاذ ثابت عارٍ تماماً مستلقٍ على ظهره، رأسه كبير أملس كصحراءٍ جرداء لا زرع ولا نبت! عيناه منتفختان تهيمان في سماء الغرفة، وشارباه الكثّان الطويلان إلى جانبه على الوسادة، وقطعة ملابس نسائيّة تنام معه..!

حقيبته السوداء المهترئة فاتحة فمها وقد لفظت أحشاءها: قطع ملابس نسائية داخليّة، بعض أدوات زينة، قنينة عطر رخيص وباروكة رجالية سوداء..!

يتحسّسون شواربهم التي غطّت شفاههم وتدلّت تعانق ذقونهم ساخرة، تلتقي أعينهم باستغراب على جدران الغرفة، صور نساءٍ عاريات وشبه عاريات تغطّيها، يتوسّطها پوستر كبير لامرأةٍ عارية، يشعّ بريق مخيف من عينيها الصفراوين، تلتفّ حول جسدها أفعىً سوداء ضخمة، تضع رأسها بخنوع فوق عنق المرأة…


————————————————————————————————

(١ ) حسنة ملص كانت أشهر بغايا بغداد في الخمسينيات من القرن الماضي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق