الحبر... في كل مكان/ مجيدة محمدي
في البدء، كان الحبرُ بحرًا،
زرقةً لا تنتهي، نداءً للظلالِ في كهوف الروح.
تسربَ من قلبِ الغيم،
ليصبغ الأرضَ بنشيدٍ لم يُكتَب بعد.
كان يحملُ صرخةَ الوجودِ الأولى،
ويخبئ في طياتهِ أسرارًا أعمق من كل الصمت.
في ليلٍ بلا قمر،
سال الحبرُ من جروحِ الورق،
وبدأ ينسج العوالم.
رسم شوارعَ لا نهاية لها،
بيوتًا تسكنها أشباحُ الأحلام،
وسماءً تمطرُ قصائدَ نازفة.
تجمدت اللحظةُ،
والحبرُ صار زجاجًا هشًا
تعكسه ملامح المجهول.
كان هناك رجلٌ في الزاوية،
يمسك بيديهِ قنينةَ حبرٍ
تئنُّ كجسدٍ يهرب من مصيره.
"لماذا أنت هنا؟"
سألته الأوراقُ البيضاءُ،
فأجاب بصوتٍ مبحوح:
"الحبرُ يطاردني،
إنه ينسلُّ من عيني، من جلدي،
حتى من نبضي...".
في أزقة الحبر،
كانت الكلماتُ تتقاتلُ،
كلٌّ منها تودُّ أن تكون الأولى،
الأقوى،
الأكثر سوادًا.
لكن الحبرَ كان صامتًا،
يراقبُ بحيادِ السماءِ،
يُهلِكُ الخطوط،
ويحيي الظلال.
هل تعرف ما هو الحبر؟
ليس مجرد سوادٍ على بياض،
بل كائنٌ أزلي،
يتنفسُ في قلوبنا،
يُغرِق أفكارنا،
ويهدمُ الجدران بيننا وبين المستحيل.
إنه مرآةُ الروح،
يمسك بحوافِّ الحلمِ
ثم يسقطنا في هاويةٍ لا قرار لها.
مررتُ بمرآةٍ مكسورة،
رأيتُ وجهي ينزفُ حبرًا.
رأيتُ الأزقةَ تبتلعُ نفسها،
والأبوابَ تنزلقُ إلى الفراغ.
حتى الوقت صار كومةَ رماد،
تذروها الريح.
كل شيء صار حبرًا.
أصواتنا،
ذكرياتنا،
خيباتنا،
والنهايات التي نسينا أن نكتبها.
الحبرُ لا يعرفُ النهاية،
فكلما امتدّ،
زاد ظلامًا واتساعًا.
يُغرِق العالمَ بأحلامه،
ويُعيد تشكيله في صورةٍ لا نعرفها.
إنه الغيمةُ التي تمطرُ أسئلة،
والبحرُ الذي يبتلعُ الأجوبة.
في مكانٍ ما،
هناك كاتبٌ متعب،
ينظر إلى يديه اللتين تلطختا بالحبر.
"ماذا فعلتُ؟"
سأل نفسه،
لكنه لم يجد جوابًا.
فالحبرُ قد صار كلَّ شيء،
والكاتبُ نفسه صار جزءًا من الحكاية.
كل شيء حبر،
الأرض،
السماء،
وحتى نحن...
حروفٌ في بحرٍ لا قرار له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق