السبت، 20 يوليو 2024

حين تكتب القصيدة..شاعرها..! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حين تكتب القصيدة..شاعرها..!


الشاعر التونسي الكبير طاهر مشي..ينحت من قلبه..

شعره كالخيال لا يعترف بمواعيد العزلة..ولا بدفتر الحضوروالانصراف..


تشعر حين تكون أمام قصائده بأنه متيم بالسير في الطرق غير المألوفة،والدروب غير الممهدة،والسبل التي لم يسر فيها أحد من قبله،وكأنه يخشى إن هو سار في درب سبقه إليه آخرون أن تقع قدمه على أثر قدم شاعر سواه،إنه حريص على أن تكون له طريقة بالغة التميز في رسم الصورة الشعرية،وفى صوغ العبارة الشعرية،وفى ابتكار التنويعة الموسيقية،بل إنك تشعر أنه في تعامله مع المفردات يود لو استطاع أن يبتكر لغة غير اللغة وينطق بألفاظ غير الألفاظ.. .

وإذن؟

حين أحاول إذا،أن أرسم صورة الشعر العربي في القرن الواحد  والعشرين،فإن عينيَّ تقفان في كل مرة أمام هذا الشاعر المدهش الذي أسمح لنفسي بأن ألقبه "شاعر الشعراء"،لا بمعنى أنه -أميرهم- أو كبيرهم أو أولهم،وإنما بمعنى أنه إذا كان هناك شعراء يُطربون القراء،فإن هذا شاعر أول من يطرب له هم الشعراء الآخرون،وكل منهم يتساءل كيف استطاع أن يحفظ لصوته صفاءه وتفرده على هذا النحو الفريد؟!

وفى الوقت ذاته فإني أزعم أنه ليس هناك شاعر،ممن جابلوه أو تبعوه،نجا من التأثر به.

إنه الشاعر التونسي الكبير الطاهر مشي الذي ينحت الشعر بإبداع خلاّق..ويراقص الكلمات ببراعة واقتدار..

وأستسمح من القراء الكرام قراءة قصيدته التالية ولهم حرية التفاعل والتعليق:

شوق..على عتبات الرّوح

تهمى مراكبك الأحلام في السّحر

ما أجمل الحلم في الأشعار فاحتسبي

قد بات نبضي به الأوجاع مغتصبي

ما أظلم الحب في الأحلام من وصبي

لولا وفائي لقلت الحب معصية

فالضاد تسكرني والشوق في عتبي

سألته ذات مرّة في لقاء خاطف معه،قبل أن تمارس عليه إحدى قصائده إكراهاتها:

-يتدفق الخيال لدى الشاعر،وينفعل في حدود كلماته وهو في عزلة شديدة الذاتية،فهل اكتشفت مرآة خيالك في لحظات شديدة الكثافة؟

وجاءني الجواب مدهشا مثل قصائده تماما،إذ قال:

"الشعر كالخيال لا يعترف بمواعيد العزلة ولا بدفتر الحضور والانصراف،فجأة تتشكل سحائبه وتضربك أينما كنت..بمفردك،بين الناس،أو بين صفحات كتاب.عليك فقط أن تكون متهيئاً ومستحقاً لزيارة هذا الضيف الكبير،فهو لا يزور إلا من يكرمون وفادته.."

ختاما أدعو القارئات الفضليات والقراء الأفاضل إلى الإستمتاع بالقصيدة التالية للشاعر القدير طاهر مشي والرقص على ايقاعات أجراسها الموسيقية..

أنات عتاب

عاد نبضي محملا بأنات عتاب

أترى سنلتقي

سنزيح الحواجز

ونضم اللحظة في تصابي

كأننا الآن خلقنا

لنكون معا

والبسمة مرسومة

بين الشفاه.. أجمل نغم

زيف البوح موصوف

وتقاسيم الغربة ملفوفة

مرمية بين طيات الضباب

وسوسنة الربيع تغني:"

خذني معك بعيدا

دعني أطير فوق السحاب

ونعيد.. للهوى طعم الحب والحنين."

أتراها تشتاق لنبضي!؟..

تسهر مع تلك النجوم؛

وعينها تحوم في السماء

ترفرف أجفانها؛

والبسمة تغمر محياها

يداعبها الحنين

أمن طين خلقت؟

أم من الأشواق

ونور اليقين!؟..

هنا يعزف النبض طويلا

تتعالى صرخة المشتاق

يزداد الأنين..

لقد عاد نبضي محملا؛

والغربة تلحفه

رداءً موشح بالظلمات

ونبضي يقطر دما

مسفوحا على شرفة حلم

وأيقونة البوح تفارقني

تغيب وتغيب

يتلاشى الطيف.

والرداء يتلحف بالغياب

وهذا الزيف المقطر

يسري بدربي

تعاتبه الأقدار كل يوم

ولحظة الحقيقة تمضي

فيعود نبضي

محملا بأنات العذاب

سأبوح وأهزم الزمن

أداعب ظل الحقيقة

سأعود إليك

وقلبي المسلوب يرتجف حياء

فالبوح تمنع

وتلك الأيام التي مضت

تصحرت جداولها

بين ظن ويقين

سنلتقي رغم العراقيل

و رغم الغياب

ليعود الربيع على شاطئ البحر

محمل بأشواقي

ونلتقي..

(طاهر مشي)

لا يستطيع قارئ قصائد شاعرنا المتميز وطنيا وعربيا -طاهر مشي-من الوقوف على شائبة تصويريَّة،أو عثرة تشكيليَّة،أو هجنة إيقاعيَّة؛لهذا تكتمل مثيرات قصائده المدهشة كلها في تعزيز جمالها وتناسق إيقاعاتها،كما لو أنها مُهَنْدَسَة فنيَّة لتأتي غاية في التفاعل،والتضافر،والانسجام،وهذا ما يُحْسَبُ لشعريّة -طاهر مشي-أنها ممتدة امتداد الأفق،تعايش عالمه المفتوح والغني بالمعارف،والمواقف،والإمكانات،والأيديولوجيات،والموروثات الأسطوريَّة المكتسبة.

دمت..لامعَ الحرف..أيها الشاعر الألمعي: الطاهر مشي


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق