الجمعة، 8 أبريل 2022

نافذة مفتوحة على الأدب السعودي : قراءة فنية-متعجلة-في قصة قصيرة (العفة ) للمبدع السعودي د-خالد الخضري- بقلم الناقد والكاتب الصحفي التونسي محمد المحسن

 نافذة مفتوحة على الأدب السعودي :

قراءة فنية-متعجلة-في قصة قصيرة (العفة ) للمبدع السعودي د-خالد الخضري-
تتجلّى أركان القصة القصيرة جداً في القصصيّة والتّكثيف،فهذا النّوع يتميّز بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف،بالإضافة إلى سمة التّلميح والاقتضاب،واعتماد النّفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتّوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار أمّا التّقنيات فتتمثل في خصوصية اللغة والانزياح والمفارقة والتّناص والتّرميز والأنسنة والسّخرية والمفارقة والتّنويع في الاستهلال والاختتام.
وإذا كنّا قد تناولنا بعض هذه الأمور في مقالات سابقة منطلقين من تأطير النّوع وتبيانه،فسنحاول في هذه السّطور الموجزة أن نقدّم قراءة في قصة قصيرة للمبدع السعودي الدكتور خالد الخضري،فالبناء النّظريّ لن يكتمل من دون التّطبيق.
الحدث القصصيّ من مستلزمات القصة،فإذا خلت منه تحوّلت إلى بوح وجداني،يقول الكاتب د-خالد الخضري في قصّته "العفة": "بعد دخولنا إلى غرفة النوم،كانت حريصة على أن تضع فوطة فوق السرير،وقمت بسؤالها عن هذه الفوطة،وبررت ذلك بأنها حريصة أن لا يتسخ السرير، هي تعرف ما تريد،واثقة من نفسها تمامًا،وتدرك كل الذي سيحدث رغم أنها لم تتجاوز الثلاثين من العمر،إلا أن فطنتها،جعلتها تحسب حسابًا لكل شيء."
فإذا ما قرأنا النّص بعيداً عن عمق الدّلالة،وغاية القصد،سيكون نصّاً عاديّاً،وهو غير ذلك.ففي هذا النّص نتلمّس مشهداً يزخر بتقليد شعبي توارثناه-أكاد أقول-جيلا بعد جيل-،يعبّر عن رجل ذي طباع شرقية تتأجج فيه الشهوة ليلة زفافه و سرعان ما تتحول إلى شبق عاصف،لكنّ تطوّر الحدث برز في اختلاف النظرة،حسب وجهة نظر ترتبط بالعفة،فباتت بعرف الرّجال وكذا النساء عرفا اجتماعيا لا مناص من تجاهله يعبّر عن الفحولة وعذرية العروس وعفتها ليلة عرسها في ذات الآن..
وما شغل بال النّسوة ما توارثنه في مجتمعهن،وهو-كما أسلفت- مبدأ العذريّة-لدة المرأة العربية.فالحدث القصصي هو الفعل المحرّك في هذا النّصّ،وقد جاء متوتراً وفي حالة تصاعديّة، يتنامى وفق التّغيير الذي تصنعه الشّخصيات،كي يكشف لنا النّفسيات الحقيقيّة.
ومن هنا فإنّ قفلة القصة اعتمدت على المفارقة.ويمكن أن نستشفّ من النّصّ المفارقة اللّغوية من خلال الثّنائيات بين بساط الأحلام الوردية" وبعد غفوة قصيرة،وأجواء حنونة،وأحضان دافئة...تركت لها الكيس الذي يحتضن الفوطة،عنوان العفة،لتفعل به ما تريد ورحلت."
حملت دلالات في المضمون.
ومن الأركان الأساسيّة في القصة القصيرة التّكثيف.وهو إيجاز لتفصيل الحبكة السّرديّة عبر التّركيز على استهلال وجيز،وصولاً إلى نهايات مفتوحة أو مغلقة،"أخذت الكيس الذي به الفوطة،في يدي،فإذا بسعاد تسارع إلى انتشاله مني، فدُهشْت.."
يتّخذ النصّ شكل القصّة القصيرة .وهو شكل سريع القَصّ عميق المعنى.وفي موضوع نراه يحتاج الوعظ،غير أنّ النصّ ابتعد عن منابر الوعظ ليكون نصّا فنّيّا في كتابته،واعظا في مضمونه وغايته،ومادّة للتفكير في قضيّة باتت من شواغل الإنسان في عصرنا الحديث خاض فيها الخائضون كلّ بأسلوبه.ثمّ يتحوّل النصّ من مجرّد قراءة فكرة متداوَلة تبحث عن تأصيل القيم في منظومتها الجديدة الّتي اقتضتها متطلّباتُ العصر إلى قراءة قضيّة أخلاقيّة وسلوكيّة، بل عاطفيّة،اجتماعيّة وحضاريّة،ثمّ تنفذ إلى التّأمّل ومنه إلى البحث عن حلول لقضايا الأخلاق والمجتمع والحضارة وطرق الخلاص من تبِعات التقدّم التكنولوجيّ واستلابه لقيم أصيلة مقابل تأصيلٍ لقيم أخرى على حسابها.
الجانب الفنّيّ في هذه القصة،فإنّنا نلاقيه في الأسلوب القَصَصِيّ المعتَمَد كشكل للكتابة،وفي القصيرة،في شكلها المستحدث الجديد.
فتتكثّف في القصّة المعاني وترسم في ذهن كلّ قارئ نصّا يفهمه وحده،ويرى فيه ما يريده هو بحسب تأويله ورأيه في القضيّة.(العذرية..العفة..)
وإذا عدنا إلى القراءة وجدنا العالم القِيَمِيَّ الأصيل تشتدّ لبناتُ بنائه بحكمة ندركها جليّةً.فالبناء يشدّ إليه بأفقه المذكور قبل الآن وبالعنوان الّذي يُظهر براعة في التّلاعب باللّغة و يلقي ظلاله على المشاعر الّتي تلاعبت بها عاداتنا التي -كما أشرت-ورثناها عن أجدادنا-إلى درجة صار فيها الأموات يحكموننا من وراء قبورهم..!!"ـ إذن لماذا وضعتها في الكيس، وماذا تريدين بها، هل ستحنطينها مثلًا؟
ـ باعطيها أمي، تحتفظ فيها للزمن.
ـ أي زمن،من جدك؟
ـ أجل، هاذي عاداتنا،وعشان،أي أحد يفتح فمه بكلمة عني يكون هناك الدليل."
ويستظل النصّ بظلّ العنوان،وينتشر ويمتدّ كما انتشر الحبّ فيها..يكبر في تلك الليلة التي نسميها في المغرب العربي ب"ليلة الدخلة"ويمتدّ في كلّ الأرجاء وفي كلّ الاتّجاهات..
وتتضافر عبارات الوصف مع جمل السرد ليعطّل الوصفُ الفعل فيتعَطّل.وهذه براعة أخرى في استعمال اللّفظ تنضاف إلى المضمون والشكل.فأسلوب الكتابة الّذي لم يبتعد عن البساطة قد صار عميقا صُورةً وتبليغا وتأثيرا..وهذا يحسَب للقاص البارع د-خالد الخضري .
وبَعد النّصّ،"العفة"يمكن أن يكون في صورة أخرى تحمل الفضائل وتؤصّل القيم النّبيلة.أَلَمْ يصغ كاتب النصّ (د- خالد الخضري)نصّه لِيَصِلَ إلينا من أجل معان إنسانيّة ذات بعد سوسيولوجي وسيكولوجي تسكننا-قسر الإرادة-؟
ختاما يمكن القول أنّ القراءة العميقة،القراءة الاستنباطية،هي التي تكشف المعنى الخفي بأبعاده الغائرة في النص ودلالاته الرمزية؛ فالإبداع الحقيقي في كل زمان ومكان هو التعبير الصادق عن الوجدان الجمعي لا الوجدان الفردي.والرمز هو الذي يضمن له تلك الإمكانية المتجددة،وهو ما يجعل القصة،كما القصيدة،صالحة لكل زمان ومكان.
التعبير المباشر،مهما كان نصيبه من جمالية اللغة وطراوة الأسلوب،يظل محكوماً بوقته وراهنيته ثم يتلاشى.وعلى العكس من ذلك التعبير غير المباشر،التعبير الرامز،الذي يأخذ مداه الطويل في الزمن والتاريخ.
وما من شك في أن-الشاعر والقاص السعودي السامق د-خالد الخضري -قد حقق قفزة نوعية في مجال الإبداع بمختلف تجلياته الخلاّقة..
ولنا عودة إلى -قصة العفة-عبر قراءة مستفيضة..
الناقد التونسي محمد المحسن

القصة القصيرة جداً.. رؤية تأصيلية كتاب نقدي جديد للكاتب والناقد د. محمد ياسين صبيح تقديم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 القصة القصيرة جداً.. رؤية تأصيلية كتاب نقدي جديد للكاتب والناقد د. محمد ياسين صبيح

صدر للكاتب السوري د. محمد ياسين صبيح عن دار خطوط وظلال في الأردن الكتاب النقدي الجديد الذي يهتم بالقصة القصيرة جدً، هذا الجنس الأدبي الجديد نسبياً والذي يحتاج إلى المزيد من الدراسات النقدية التي تفتح أفاق الكتابة الإبداعية.
يحتوي الكتاب على الكثير من الفصول التي تناقش وتدرس الكثير من المواضيع مثل (التناص والشعرية والتجريب والخطاب السردي الخاص بها، وإلى علاقتها الحساسة بالشعر النثري وتداخلاتها معه، والذي يعتبر إشكالية كبيرة ترافق الشعراء وكتاب القصة القصيرة جداً، والى الغوص في تعالقاتها مع الثنائيات اللغوية والضدية وغيرها من المواضيع)، والتي ستساهم في خلق رؤية إبداعية جديدة لها، وتعزز الفهم الأفضل لماهيتها السردية ولتقنياتها المتعددة.
يقدم الكتاب دراسة شاملة عن كل ما يتعلق بالقصة القصيرة جداً مدعّم بالكثير من الدراسات التطبيقية للعديد من الكتاب العرب، وتأتي أهمية الكتاب من خلال محاولته تقديم رؤية تنظيرية ونقدية للكثير من المواضيع الخاصة بالقصة القصيرة جداً، فهي لا زالت تحاول أن تجد لها مكاناً راسخاً على الساحة الأدبية، من خلال ترسيخ أحقيتها الأجناسية وتقنياتها السردية وتأصيل الحالة النقدية والتنظيرية لها، من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة في دراسة ومناقشة هذه المواضيع، حيث الأجناس الأدبية السردية الأخرى (الرواية والقصة القصيرة)، حظيت بدراسات تنظيرية ونقدية كثيرة جداً.
تحاول هذه الدراسة، تقديم رؤية تأصيلية ممكنة للقصة القصيرة جداً، ومدعّمة بدراسات تطبيقية واسعة وللعديد من الكتّاب العرب الذين نشروا مجموعاتهم عبر الوطن العربي.
متابعة محمد المحسن

هدايا الأديبة فائزة بنمسعود

 هدايا الأديبة فائزة بنمسعود

 

لطالما شكلت المنجزات الأدبية دعما كبيرا للكاتب وللساحة مهما كان المنجز وما صدحت به أقلام المبدعين على الصفحات البيضاء، حتى يجد القارئ ما يشفي غريزته ويروي قريحته من بديع الضاد.

فما أسعدني بكل الهدايا التي تصلني من طرف الأصدقاء والكتاب، والشعراء والمثقفين، حيث أحاول المرور على ما يصلني من إصدارات، وهذه الأعمال هي محتوى مكتبتي البسيطة، أعود إليها كلما صرخت الأشواق في صدري، علني أغوص في البعض منها وأرتوي.

هذه المرة هدية بطعم السكر، هي أربعة منجزات إستلمتها من طرف الكاتبة المتميزة الأديبة فائزة بنمسعود، عندما إجتمهنا  في آخر لقاء، هي هدية قيمة وإضافة لمجوعة المخطوطات التي بحوزتي، أدخلت الفرح والسرور لقلبي،

·       ديوان جرح في خاصرة أنثى وهو من الجزء الثاني من يوميات مارقة

الطبعة الأولى تونس 2020

نصوص شعرية متميزة شكلت نبض الشاعرة المتميزة فائزة بنمسعود

نص من الديوان:

يا  ساهرا

ترنو إلى السماء

تعدّ النجوم

وتنتظر اللقاء

هل عرفت ذنبك؟؟

طبعا لا

وألف لا

ذنبك يا متيم

أنك ولدت

من رحم الوفاء

12/10/2018

 

·       ديوان من وراء الستار وهو من الجزء الثاني من يوميات مارقة

الطبعة الأولى تونس 2020

نصوص رائعة بكل ما فيها من صور شعرية ولوحات إبداعية من إبداع الرائعة الشاعرة فائزة بنمسعود

نص من الديوان:

ما الحبّ؟

كم أحب أن أسافر معك

لمدائن العشق الحالمات

ونسير في طريق

ليلها طويل

وفي نهايتها يشع

بريق حلمنا الجميل

يدنو منا

يحتضننا

ولسدرة العشق

يكون لنا خير دليل

كم أحب أن أقطع

الليل معك

مشيا على النبضات

ومعا نتنفس

عطر الهمسات

ومن سحر الفجر

تمتص رحيق القبلات

ونحلق في سماء الهوى

بأجنحة الفراشات

ومعا نخط على

كل الدفاتر والصفحات

ما الحب إلا إلتحام

الذات بالذات

وهو روح القصيد والكلمات

يا ملاكا نزل الأرض

من أعالي السماوات

يا أملا نوره بدد الظلمات

يا عشقا سكب في الحياة

روح الحياة  .....

25/03/2020

 

·       أما المنجز الثالث الذي نالني شرف مصافحته هو مجموعة قصصية "وشم على ذاكرة النسيان"

الطبعة الأولى تونس 2020

مجموعة من القصص المتميزة في محتواها بأسلوب وحنكة منفردة يجد القارئ متعة في قراءة النصوص التي كتبت بأسلوب نقي سلس ومتميز.

مقطع من قصة "الطيور تعود دوما"

'سرت على مهل حتى دنوت من الطيف الذي بات حقيقة .... وقفتُ على رأسها فما أحسّت بوجودي أو هكذا بدا لي رغم تعمدي إصدار صوت سعال خفيف .... فكرت في تحريكها وأحجمت، ابتعدت قليلا وأرهقت السمع ففاجأني صوت نشيج تخنقه العبرات عندها تيقنت أنها على قيد الحياة، وما دامت حية لن أُتَّهم بجريمة قتل على وجه الخطأ ولن أبوءُ بإثمها ....'

·       والمجموعة الرابعة كانت رواية "سر الغرفة الرابعة" وهي سيرة ذاتية

الطبعة الأولى تونس 2020

رواية تشكلت في عدة فصول أبدعت في سردها ونحتها الكاتبة المتميزة فائزة بنمسعود

هذه المجموعة الرائعة والهدايا القيمة هي غذاء للروح وكنت سعيد جدا بمصافحة أعمال الأديبة فائزة بنمسعود أتمنى أن يجد القارئ في هذه المنجزات ما تصبو له الروح والذات الكاتبة والمتعطشة للقراءة.

تقديري واحترامي وتمنياتي بالنجاح والتوفيق المستمر

طاهر مشي







الأربعاء، 6 أبريل 2022

حين يستنفر الشاعر التونسي السامق طاهر مشي قلمه..تترنّح الحروف نشوى..تتلوى الكلمات منهَكَة بين يديه..وتتجلى ابداعا خلاّقا.. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حين يستنفر الشاعر التونسي السامق طاهر مشي قلمه..تترنّح الحروف نشوى..تتلوى الكلمات منهَكَة بين يديه..وتتجلى ابداعا خلاّقا..

تصدير : تتجلّى أركان القصة القصيرة جداً في القصصيّة والتّكثيف،فهذا النّوع يتميّز بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف،بالإضافة إلى سمة التّلميح والاقتضاب،واعتماد النّفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتّوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار أمّا التّقنيات فتتمثل في خصوصية اللغة والانزياح والمفارقة والتّناص والتّرميز والأنسنة والسّخرية والمفارقة والتّنويع في الاستهلال والاختتام.
وإذا كنّا قد تناولنا بعض هذه الأمور في مقالات سابقة – نُشرت في هذا المكان - منطلقين من تأطير النّوع وتبيانه،فسنحاول في هذه السّطور الموجزة أن نقدّم قراءة في قصة قصيرة جداً صاغتها أنامل الساعر التونسي القدير طاهر مشي، فالبناء النّظريّ لن يكتمل من دون التّطبيق."

"وتحملنا هواجس السفر، أتراها الأقدار تسير بنا، أتراه الحنين يدندن ألحانه البائسة على نوافذ الصبر..
أتراه حمل الأشواق أعيى الفؤاد، ما عدت أدري يا سيدتي أسفينتي تبحر دون شراع ؟
أم مجاديفها مكسرة ورواسيها مغروسة في أعماق البحار؟
ما عدت أدري..؟!!"
( طاهر مشي)

بحترف طاهر مشي،فن الكتابة المكثفة،يعرف كيف ينسج بمهارة فائقة قصةً من بضع كلماتٍ وجمل قصيرة، قصص شديدة الغرابة،كثيرة الأسئلة، شديدة التكثيف، في سردها ولغتها،فتمنح القارئ جرعة عالية من المتعة والاندهاش،فلا نجد كل يوم كاتبًا يعرف كيف يصيغ أفكاره وكلامه بهذا التكثيف.
اللوحة القصصية أعلاه (قصة قصيرة جدا)، جعلتني أرى الكاتب متوحدًا مع نصه وما يكتبه، فلا تنفصل الكلمات عنه ولا هو ينفصل عنها،مما يؤكد ذاتية بعض النصوص التي يكتبها.
مراعيا في ذلك دقة التعبير المكثف من خلال لحظات وأحداث محدودة وبجمل قصيرة حيث الاستغناء عن السرد التقليدي، والتنقل بين الوعي واللاوعي والمزج بين الأمكنة والأزمنة والمونولوج الداخلي والحوار القصير المكثف والمنقطع،ما أعطى روعة وجمالية لهذا النص القصير جدا..والذي بدوره يظل شاهدا على أنه متمكن من كتابة هذا الجنس السهل الممتنع بكل دقة في مسك الخيط الممتد بين مخزون الذاكرة والمحتوى على تصوير لواعج الذات في سفرها وتطوافها عبر مدارات الكينونة عموما ،وبين إرهاصات الحصاد المتجسد في كل ما يحيط بعالمه..
مع كل قصة نقرأها لهذا الشاعر الفذ والكاتب القدير (طاهر مشي)، بعد كل سطرٍ، ربما نعيد قراءته ثانيةً ونفكّرفيه قليلًا، نجد أن خلف هذا السطر شيئًا آخر مختلفًا،يود أن يقفز بك لقصة أخرى جديدة،موغلة في التكثيف،الإيحاء والترميز..
حين سألته قائلا: لماذا هذا النوع والشكل من القص؟
أجابني بأسلوبه الإبداعي المدهش :" “عندما أكتب القصة القصيرة جدًا، لا أكتبها لشيء سوى تلبية ذلك الهاجس الذي يحلًّق بي عاليًا إلى عالم خاص وأخّاذ، كومضة برق، أو قصف رعد، أو قطرة ماء ضمن حالة إنسانية أعيشها بكل جوارحي“.
وأنا أقول :
حين يكتب الشاعر والقاص طاهر مشي، نراه يذهب إلى التقاط اللحظة التي تتصل بالأثر الذي تتركه الطبيعة في تحولاتها على الكائن بمشاعر الحزن أو الفرح..الشوق أو الحب الإنساني النبيل..
وهو في هذا الفيض من المشاعر،إنما يسعى ليس إلى أنسنة الأشياء والكائنات فحسب،بل يذهب إلى وحدة الوجود التي تمنح نصه القصصي شعريته التي يشبعها بالاختزال والتكثيف والمفارقة كجماليات حداثوية تمنح النص روحه المعاصرة.
وهنا أضبف :
"فبعض الأبواب لا تطرق أكثر من مرةٍ واحدة".
ربما بعض الأبواب لا تطرق أكثر من مرة بالفعل،لكن في هذه القصة القصيرة التي داعبت ذائقتي الفنية (وهذا الرأي يخصني)،تطرق الأبواب مئات المرات، فمثل هذه الكتابة يعاد قراءتها أكثر من مرة، ولا تمل أبدًا.
طاهر مشي القاص والشاعر، قبل أن يكون كاتبًا، فهو قارئ مخيف،مثقف،عاشق للأدب وللكتابة بكل ما تحمله داخلها،شاعر قدير يعرف كيف يوفق بين الكلمات فيخرج لنا تحفةً جديدة، ويعي ما تمثله الكلمة،فهو قادر على صنع قصص مثيرة وجميلة وقصائد أجمل..
يشبّه طاهر مشي،القرن الحاليّ الذي نعيش فيه بالقرن النووي الواحد والعشرين،قرن مجنون،متخم بالكوارث،متمنيًا لو بقينا مجرد كروموسومات* منسية وسعيدة،على غرار ما تمناه الفيلسوف "سيوران".**
وللقارئ للقصة أختم وأقول : أحيانًا لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح،يكفي أن يصل إليك كومضة تقف طويلًا على نافذة إدراكك دون أن تغادر..!
وهذا مافعله الشاعر والقاص التونسي الكبير طاهر مشي..ببراعة واقتدار..
وتمنياتنا له بالتوفيق والسداد بالقادم من أعمال..
محمد المحسن
هوامش :
*الكروموسومات هي (هياكل صغيرة) داخل الخلايا،مصنوعة من (الحمض النووي - DNA) و (الحمض النووي - RNA) و (البروتين).
المعلومات الموجودة داخل (الكروموسومات) تكون مثل (الوصفة) التي تُخبر (الخلايا) بكيفية العمل و التكاثر.
**إميل سيوران (بالرومانية: Emil Cioran)‏ (1911-1995)، هو فيلسوف وكاتب روماني نشر أعماله باللغتين الفرنسية والرومانية ولد في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية. وقد كان والده قساً أرثوذكسيا بالقرية، وكانت أمه لا تخفي سوء ظنها بكل ما يتعلق بالدين واللاهوت، إلا أنه وبالرغم من عيشه تحت ظل هذا التناقض الغريب إلا أنه ظل يحمل عن طفولته انطباعاً فردوسيا، فقد عاش تلك الفترة على إيقاع الطبيعة متأملا الخضرة ومنصتا إلى حكايات الرعاة. قام بتأليف 15 كتاباً إلى جانب المخطوطات التي عثر عليها بعد وفاته.