الأربعاء، 6 أبريل 2022

حين يستنفر الشاعر التونسي السامق طاهر مشي قلمه..تترنّح الحروف نشوى..تتلوى الكلمات منهَكَة بين يديه..وتتجلى ابداعا خلاّقا.. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حين يستنفر الشاعر التونسي السامق طاهر مشي قلمه..تترنّح الحروف نشوى..تتلوى الكلمات منهَكَة بين يديه..وتتجلى ابداعا خلاّقا..

تصدير : تتجلّى أركان القصة القصيرة جداً في القصصيّة والتّكثيف،فهذا النّوع يتميّز بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف،بالإضافة إلى سمة التّلميح والاقتضاب،واعتماد النّفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتّوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار أمّا التّقنيات فتتمثل في خصوصية اللغة والانزياح والمفارقة والتّناص والتّرميز والأنسنة والسّخرية والمفارقة والتّنويع في الاستهلال والاختتام.
وإذا كنّا قد تناولنا بعض هذه الأمور في مقالات سابقة – نُشرت في هذا المكان - منطلقين من تأطير النّوع وتبيانه،فسنحاول في هذه السّطور الموجزة أن نقدّم قراءة في قصة قصيرة جداً صاغتها أنامل الساعر التونسي القدير طاهر مشي، فالبناء النّظريّ لن يكتمل من دون التّطبيق."

"وتحملنا هواجس السفر، أتراها الأقدار تسير بنا، أتراه الحنين يدندن ألحانه البائسة على نوافذ الصبر..
أتراه حمل الأشواق أعيى الفؤاد، ما عدت أدري يا سيدتي أسفينتي تبحر دون شراع ؟
أم مجاديفها مكسرة ورواسيها مغروسة في أعماق البحار؟
ما عدت أدري..؟!!"
( طاهر مشي)

بحترف طاهر مشي،فن الكتابة المكثفة،يعرف كيف ينسج بمهارة فائقة قصةً من بضع كلماتٍ وجمل قصيرة، قصص شديدة الغرابة،كثيرة الأسئلة، شديدة التكثيف، في سردها ولغتها،فتمنح القارئ جرعة عالية من المتعة والاندهاش،فلا نجد كل يوم كاتبًا يعرف كيف يصيغ أفكاره وكلامه بهذا التكثيف.
اللوحة القصصية أعلاه (قصة قصيرة جدا)، جعلتني أرى الكاتب متوحدًا مع نصه وما يكتبه، فلا تنفصل الكلمات عنه ولا هو ينفصل عنها،مما يؤكد ذاتية بعض النصوص التي يكتبها.
مراعيا في ذلك دقة التعبير المكثف من خلال لحظات وأحداث محدودة وبجمل قصيرة حيث الاستغناء عن السرد التقليدي، والتنقل بين الوعي واللاوعي والمزج بين الأمكنة والأزمنة والمونولوج الداخلي والحوار القصير المكثف والمنقطع،ما أعطى روعة وجمالية لهذا النص القصير جدا..والذي بدوره يظل شاهدا على أنه متمكن من كتابة هذا الجنس السهل الممتنع بكل دقة في مسك الخيط الممتد بين مخزون الذاكرة والمحتوى على تصوير لواعج الذات في سفرها وتطوافها عبر مدارات الكينونة عموما ،وبين إرهاصات الحصاد المتجسد في كل ما يحيط بعالمه..
مع كل قصة نقرأها لهذا الشاعر الفذ والكاتب القدير (طاهر مشي)، بعد كل سطرٍ، ربما نعيد قراءته ثانيةً ونفكّرفيه قليلًا، نجد أن خلف هذا السطر شيئًا آخر مختلفًا،يود أن يقفز بك لقصة أخرى جديدة،موغلة في التكثيف،الإيحاء والترميز..
حين سألته قائلا: لماذا هذا النوع والشكل من القص؟
أجابني بأسلوبه الإبداعي المدهش :" “عندما أكتب القصة القصيرة جدًا، لا أكتبها لشيء سوى تلبية ذلك الهاجس الذي يحلًّق بي عاليًا إلى عالم خاص وأخّاذ، كومضة برق، أو قصف رعد، أو قطرة ماء ضمن حالة إنسانية أعيشها بكل جوارحي“.
وأنا أقول :
حين يكتب الشاعر والقاص طاهر مشي، نراه يذهب إلى التقاط اللحظة التي تتصل بالأثر الذي تتركه الطبيعة في تحولاتها على الكائن بمشاعر الحزن أو الفرح..الشوق أو الحب الإنساني النبيل..
وهو في هذا الفيض من المشاعر،إنما يسعى ليس إلى أنسنة الأشياء والكائنات فحسب،بل يذهب إلى وحدة الوجود التي تمنح نصه القصصي شعريته التي يشبعها بالاختزال والتكثيف والمفارقة كجماليات حداثوية تمنح النص روحه المعاصرة.
وهنا أضبف :
"فبعض الأبواب لا تطرق أكثر من مرةٍ واحدة".
ربما بعض الأبواب لا تطرق أكثر من مرة بالفعل،لكن في هذه القصة القصيرة التي داعبت ذائقتي الفنية (وهذا الرأي يخصني)،تطرق الأبواب مئات المرات، فمثل هذه الكتابة يعاد قراءتها أكثر من مرة، ولا تمل أبدًا.
طاهر مشي القاص والشاعر، قبل أن يكون كاتبًا، فهو قارئ مخيف،مثقف،عاشق للأدب وللكتابة بكل ما تحمله داخلها،شاعر قدير يعرف كيف يوفق بين الكلمات فيخرج لنا تحفةً جديدة، ويعي ما تمثله الكلمة،فهو قادر على صنع قصص مثيرة وجميلة وقصائد أجمل..
يشبّه طاهر مشي،القرن الحاليّ الذي نعيش فيه بالقرن النووي الواحد والعشرين،قرن مجنون،متخم بالكوارث،متمنيًا لو بقينا مجرد كروموسومات* منسية وسعيدة،على غرار ما تمناه الفيلسوف "سيوران".**
وللقارئ للقصة أختم وأقول : أحيانًا لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح،يكفي أن يصل إليك كومضة تقف طويلًا على نافذة إدراكك دون أن تغادر..!
وهذا مافعله الشاعر والقاص التونسي الكبير طاهر مشي..ببراعة واقتدار..
وتمنياتنا له بالتوفيق والسداد بالقادم من أعمال..
محمد المحسن
هوامش :
*الكروموسومات هي (هياكل صغيرة) داخل الخلايا،مصنوعة من (الحمض النووي - DNA) و (الحمض النووي - RNA) و (البروتين).
المعلومات الموجودة داخل (الكروموسومات) تكون مثل (الوصفة) التي تُخبر (الخلايا) بكيفية العمل و التكاثر.
**إميل سيوران (بالرومانية: Emil Cioran)‏ (1911-1995)، هو فيلسوف وكاتب روماني نشر أعماله باللغتين الفرنسية والرومانية ولد في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية. وقد كان والده قساً أرثوذكسيا بالقرية، وكانت أمه لا تخفي سوء ظنها بكل ما يتعلق بالدين واللاهوت، إلا أنه وبالرغم من عيشه تحت ظل هذا التناقض الغريب إلا أنه ظل يحمل عن طفولته انطباعاً فردوسيا، فقد عاش تلك الفترة على إيقاع الطبيعة متأملا الخضرة ومنصتا إلى حكايات الرعاة. قام بتأليف 15 كتاباً إلى جانب المخطوطات التي عثر عليها بعد وفاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق