*رحلة نحو المجهول*
جلس سليم عند الظّهيرة في ركن من أركان أحد المقاهي الشّعبية وحيدا كئيبا، خائر القوى، بعد جولةِ بحثٍ طويلة، وشاقّة عن وظيفة شاغرة قادته إلى عديد الإدارات والمؤسّسات لم تُكَلَّل بالنّجاح المأمول، و طلب من النّادل أن يجلب له قهوة سوداء. و ما هي إلّا دقائق حتّى عاد النّادل بكأس من القهوة، فتسلّمه سليم بلهفة، و ارتشف منه رشفة ، ثمّ أشعل سيجارة وأخذ منها نفسا عميقا، و نفث الدّخان في الجوّ، و بدأ يتابع تصاعده و هو يتشكّل في شكل دوائر صغيرة تتحوّل في ما بعد إلى أشكال غريبة تتلاشى شيئا فشيئا في الفضاء..
أخذ نفسا عميقا ثانيا من السيجارة و نفث الدّخان مرّة أخرى وسرح بأفكاره بعيدا.. فعادت به الذّاكرة إلى أيّام طفولته الصّعبة. لقد كان ينتمي إلى عائلة فقيرة يعولها أب أنهكه المرض، وقلّة ذات اليد، لقد كان يعمل يوما أو يومين،
و يتوقّف أيّاما. ورغم شظف العيش كان سليم، و هو الابن البكر لهذه العائلة، والأخ الأكبر لأخويه مراد و رانية تلميذا مجتهدا في دراسته. كان يطمح لنيل شهادة جامعية عليا تمكّنه من الحصول على وظيفة محترمة تنتشله و عائلته من الفقر، و تمهّد له سبيل العيش الكريم، و السّفر إن أمكن إلى أوروبا للسّياحة مثل العديد من الشّبّان الميسورين..
اجتهد كثيرا في دراسته، و سهر اللّيالي الطّوال حتّى نال الشّهادة العلمية الّتي كان يحلم بها.. بحث عن وظيفة تنتشله من بطالته الّتي طالت أكثر من اللّزوم، فلم يجد غير الوعود الكاذبة، و المماطلة، والتّسويف، و ها هو الآن في المقهى ينفث دخان سيجارته وهو يتألّم في صمت حزين..
لم ييأس سليم من البحث عن وظيفة، أو أيّ شغل محترم رغم محاولاته الفاشلة المتكرّرة بانتظام منذ سنوات عديدة، فقد كان يمنّي نفسه مع كلّ إشراقة شمس بالعثور على الوظيفة المنتظرة، و كان يبذل من أجلها جهدا كبيرا في البحث والسّؤال، والتّنقّل مترجّلا عديد الكيلومترات في أرجاء مدينته والمدن المجاورة. لكنّه لم يجد ضالّته، بل وجد مكانا شاغرا في مركب صغير من مراكب الموت، بعد أن جمع ثمن رحلته من خلال اشتغاله في جني الزّيتون تارة، و عمله كعامل بناء بأجرة زهيدة تارة أخرى، فانطلق به صحبة مجموعة من المعطّلين عن العمل في رحلة بحرية مجهولة العواقب نحو أوروبا، و ترك خلفه والدين مريضين عاجزين، وأخوين محتاجين دون عائل، و وطنا عزيزا لفظ أبناءه..
كمال العرفاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق