قصة قصيرة..
في ليلة العيد ..
بقلم / على حزين
في يوم العيد, ذهبت إلى المسجد كالعادة للصلاة, بعدما اغتسلت, وتطيبت, وارتديت ثيابي القديمة, والشمس لم تشرق بعد, الشوارع ما انفكت مضاءة, والناس ما زالت تمشي في الشوارع, والدكاكين مفتحة أبوابها, الحلاق, والترزي, والمكوجي, والبقال, والفكهاني,.. الخ
أنا لم أنم حتى الآن, ألقيت السلام على من عرفت, ومن لم أعرف, فالبلد لم تعد صغيرة كما كانت في الماضي, حدث فيها توسعات كبيرة, حتى تستوعب كل هذا الكم من البشر, فقد نشأ نشْئ جديد, وجاءت أجيال أُخر, قدِمتْ إلى الحياة, لم أعرفها, أنا لا أعرف الكثير منها,
وبشر كثير جاءوا إلى البلد من كل حدبٍ وصوبٍ, ليسكنوا فيها مما تسبب في اتساع البلد, وانتشار البنيان فيها, والعمران قد تطاول حتى أصبح أبراجاً عملاقة,.......
أنا لم أنم تلك الليلة, وهذه عادتي كل وقفة عيد, لا أنام, ولا يهدأ لي جفن, ولا أدري لماذا, ربما لأني عندما كنت صغيراً, في ليلة العيد, كنت حريصاً على ألا أنام حتى أفرُغ من كل شيء, تجهيز ثيابي الجديدة, وحذائي الجديد, والذهاب إلى الحلاق مع أبي,.. و.....
بالأمس استرخيت على سريري, وأنا أحاول أن أنام, ولكني لم أستطع, من كثرة التفكير, كنت مجهداً, وعيناي مغلقتان, وأذناي تسمع للأغنية الشهيرة التي صارت رمزاً, وتعد علماً على تلك الليلة, أغنية, تشدو بها وتصدح, الهرم الرابع, للست "أم كلثوم" ومن كلمات الشاعر الكبير, الجميل, الرائع, أحمد رامي
"يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا يا ليلة العيد
يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا يا ليلة العيد
هلالك هل لعينينا فرحنا له وغنينا
هلالك هل لعينينا فرحنا له وغنينا
وقلنا السعد حيجينا على قدومك يا ليلة العيد
يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا يا ليلة العيد"
قمت من مقامي, رتبت بعض شؤوني الصغيرة, وربما انشغلت بترتيب ثيابي المتواضعة,....
أذكر, وأنا طفل صغير, كنت لا أنام ليلة العيد, وكذلك إخوتي الصغار, وربما أمي, وأبي, كانوا لا ينامون, أمي كانت تنشغل بالنظافة, وترتيب البيت, وتسخين الماء لنا لنستحم, ونغتسل غسل العيد, وكان شارعنا الطويل لا ينام أيضاَ, وهو يضج بصخب الحياة طول الليل, بل إن البلد كلها كانت لا تنام, أزعم ذلك, وكان يسعدني هذا جداً, وكانت تبهجني الأنوار الملونة المعلقة على الجدران, و في كل مكان تري عناقيد النور المدلاة, ومنظر الجوامع وهي مضاءة ومزينة بالأنوار, ومآذنها الجميلة قد مُلئت بعقود النور الملونة المدلاة منها بشكل جميل ورائع,......
وكنت أرى زينة رمضان الورقية التي كنا نصنعها بأيدينا ونحن صغار, قُبيل شهر رمضان,
كان أفراد كل أسرة يجتمعون أمام البيت, وربما بعض الأطفال الصغار في الشارع يجتمعن أيضاً, يعاونهم بعض الشباب من الجنسين, أو بعض النسوة من ربات البيوت, وكنا نقوم بقص الورق, من كتبنا المدرسية, بشكل هندسي مدروس, واحترافي, لنكوِّن أشكالاً مختلفة, جميلة, ثم نصبغها بالألوان, وأحياناً نتركها بيضاء, وأحياناً تكون الزينة من قصاصات القماش نشتريها, أو نخزنها على مدار العام ثم نضعها في خيط غليظ, خيط منجدين اشتريناه خصيصاً لهذا, ثم ندق المسامير على الحيطان ونعلقه في شارعنا, ومنا من كان يصنع له فانوساً من الجريد أو الخشب, وربما يشتريه جاهزاً, يغلفه بلوح من ورق القزَّاز الملون: أصفر, أحمر, أزرق, ويضع فيه المصباح", ......
نظرت في ساعة يدي, الشمس لم تخرج بعد, والصخب, والضجيج لم ينقطع, الأطفال يملئون الشوارع بزيهم الجديد, يلعبون, ويلهون, بالدراجات, وبالبالونات, وبالألعاب النارية, ويصور بعضهم بعضاً بالهواتف الذكية," الموبايلات", ها هو أحدهم, يتقدم نحوي, يلقي أمامي صاروخاً صغيراً, يلقيه ويجري, وهو يضحك, أبتسم , أقف, أتسمر مكاني, وأنا أنظر إليه وإلى الصاروخ المشتعل, وأنتظر حتى ينفجر, وقد وضعت يدي على رأسي, وأنا أحدث نفسي بصوت مسموع,
ــ من حق الأطفال اللعب, وهذا يوم عيد ...
أكملت سيري, وأصوات الإنفجرات تدوي من حولي, التكبير ينبعث من كل مكان, ليملأ الأجواء إيماناً, والدنيا قد امتلأت بهجة, وسعادة, وسروراً, وأنا أردد معهم,:
ــ الله اكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ... لا إله إلا الله ... الله أكبر .. الله كبر .. ولله الحمد ...
انبعثت السكينة في داخلي, وشعرت براحة نفسية, وبالسعادة غامرة, وبالرضى, والمسجد قد ترائى لي من بعيد, وأنا أحث الخطى نحوه,
أولادي الصغار في البيت, تركتهم لأمهم كي تجهزهم للصلاة, وللعيد, أنا لم أكسهم ككل عام, فهذه السنة كبيسة, لذا رفضوا أن يأتوا معي للصلاة, الغلاء لم يبقي لي شيئاً ولم يذر لأكسوهم, فضلاً عن أمهم التي لم تكتسي منذ بضع سنين, فهي تقنع بالقليل,
ــ ربما يلحقون بي, أو يصلون في مكانٍ أخر,
مررت بترعة صغيرة, تسقي الحقول الشاسعة, ثم سلكت طريقاً صغيراً ممراً ضيقاً, مدق بين الحقول, فالجامع الذي سأصلي فيه قابع هناك,
أنا الآن على أطراف المدينة, بعض الكلاب تنبح عليَّ, أدفعهم بعصا كانت في يدي, فيجري بعضهم وينفضوا عني, والبعض الأخر يتبعني, كان فيهم كلباً أسوداً, ينظر إليَّ شزراً, يتتبعني, أتذكر العفاريت التي كانت مقيدة, والمحبوسة طوال الشهر, لقد فك قيدها, ووثاقها الآن, فأذكر الله كثيراً, وأستعيذ بالله من كل الشياطين, وأردد مع الأصوات المنبعثة من الميكرفونات, وفجأة نمس صغير ينفلت من أمامي يجري ليندس وسط الحقول, وأنا أقترب من المسجد,..
منظر الخضرة خطير والندى عليه رائع جداً, وجميل, والربيع الأخضر مع زنابق الحقول شيء مدهش حقاً, والنخيل أراه يقف في شموخ وإباء وكأنه حارس للأرض على مر العصور, والتاريخ, والزمن, لوحة ربانية جميلة مدهشة, سبحان الله,
ها أنا قد وصلت الآن, خلعت حذائي القديم, سميت الله, وصليت على رسوله, ودخلت المسجد, وسلمت على الجميع, وهنأتهم بالعيد, ثم جلست مكاني, أذكر الله, وأكبر مع الأطفال الذين يكبرون,
ــ الله اكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ... لا إله إلا الله ... الله أكبر .. الله كبر .. ولله الحمد ...
برهة من الزمن توافد فيها المصلون, وهم يكبرون, ويهللون,..
أذكر, وأنا صغير عندما كنت آتي إلى هنا مع أبي, وأنا في المرحلة الابتدائية, كنت أفعل مثل هذا, وقد ارتديت ثيابي الجديدة الذي اشتراها لي أبي, والذي كنت لا أنام حتى آتي بها من عند الترزي, وأحياناً كنت أجلس عنده بالساعات, أنتظره حتى يفرغ منها, فآخذها,أدسها في صدري, وقد جمعتها بين يدي مخافة عليها من الهواء,
تذكرت أولادي الصغار, وما ألمَّ بهم هذا العام, فتحوقلت في نفسي, وحمدت الله على كل حال,
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم,
ها هو الشيخ قد جاء, خطيب المسجد أتى, سلم على الناس, ثم أشار بيده, أن أقيموا الصلاة, فأُقيمت الصلاة, وصلينا خلفه, ثم قام فينا يخطب بعد صلاة العيد, وقف, والناس حوله قُعود,والكل فرح, وسعيد, نهض, ونحن جلوس في المسجد, بعدما صلى, صعد المنبر, كبر, وحمد الله, وأثنى عليه, وكان مما قال في خطبته بعد التكبير والتهليل, والتمجيد, والتحميد والتَشهد والترضي على الصالحين .. ثم قال .. أما بعد.....
" كل عام أنتم بخير, عباد الله هذا يومكم يومَ عيد, هذا يومٌ سعيد, هذا يومٌ مجيد, فهنيئاً لكم أحِبائي الصيام, والصلاة, والقيام, والركوع, والسجود, وهنيئاً لكم, فاحمدوا الله فمن حمد وشكر له المزيد,
واعلموا أحبائي بأن العيد"ليس لمن لبس الجديد وإنما العيد لمن خاف يوم الوعيد "ولتحفظوا جوارحكم فهي عليكم يوم القيامة شهود, وألِظّوا بالتسبيح, والتهليل, والتحميد, وبكلمة التوحيد, وادعوا ربكم ذو العرش المجيد, الفعال لما يريد,
عباد الله هذا اليوم لم يفرض عليكم فيه صيام, فكلوا, واشربوا, واسعدوا, واغنموا, وروِّحوا على أنفسكم, فإن النفوس إذا كلَّت ملَّت, ثم أتبعوا رمضان بستٍ من شوال, ولا تنسوا من كل شهر الثلاثة البيض, والاثنين والخميس, وأطيعوا الله ورسوله يزدكم من فضله, وتزودوا فأن خير الزاد التقوى, وتطوعوا بالمزيد, وأفضل الصيام كما قال نبينا صيام نبي الله سيدنا داوود,
واذكروا جيداً دروس الصيام, الصوم عن الكلام, والصبر, والطاعة, والالتزام, والرضا بقضاء الله واعلموا أنكم عباد لله وحده, فإن أراد الله أن يغنيكم أغناكم, وإن أرد أن يفقركم أفقركم,
والحمد لله أنتم أغنياء بالإسلامِ, وبالإيمانِ, وبالتوحيد" يَا أيَّهَا النَّاسُ أنتُمُ الْفُقرَاءُ إلَى الله , واللهُ هُوَ الغنِيّْ الحميدُ , إن يَشَأْ يُذهبكُمْ وَيَأْتِ بخَلْقٍ جَدِيدٍ وما ذلك على الله بعزيز"
فاحمدوا الله على أن نجَّاكم من النار, بأن هداكم إلى الإسلام والصيام والقيام, ولتعلموا أن فضل الله عليكم عظيماً,..........
عباد الله, هذا يومكم يوم عيد, فلتفرحوا, وأدِخلوا البهجة, والسعادة, والسرور, على بيوتكم , وإلى ذويكم, وصِلِوا أرحامكم, وأغنوا فقرائكم, واليتامى, وتذكروا الفقراء والمساكين, وتصافَحوا وهنئوا أنفسكم بالعيد, وَتَزَوَّدُوا بالتقوى,
عباد الله احفظوا مني, وليبلغ عني, الشاهد منك الغائب, والقريب منكم البعيد, الدنيا ملعونة, والشيطان ملعون, واللسان يكُبُ صاحبه في النار, وإن عذاب الله لشديد, ومعاذ الله أن أذكركم به وأنساه, ثم الدعاء,............. ,"
عدت إلى البيت, بعد صلاة العيد, وأنا أفكر في أولادي, بعدما تأثرت كغيري, وبكيت, وفي البيت وجدت أبنائي كما تركتهم يبكون, بلا ثياب جديدة والبيت خاوٍ من الدقيق والطحين, ليس فيه من خبزٍ ولا شعير, والجيب فارغ إلا من الشيءٍ الزهيد, وإذ بزوجتي وأبنائي واقفين أمامي في تحدٍ وتهديدٍ, ووعيد, وقد آووا إلي ركنٍ شديد, يطالبونني بالنفقة, والطعام , والثياب الجديد,..
فبكيتُ في نفسي, وتذكرت قول الشيخ, ونظرت غير بعيد, وأنا علي الحميد المجيد, وضحكت في وجوههم, وهششت لهم وبششت, وقلت لهم , وأنا أعذرهم, وأتقطع من الداخل بسببهم,
ــ يا أبنائي الأعزاء عيد سعيد
فقالوا لي وهم غاضبون,
ــ وأين يا أبي ثياب العيد
فقلت لهم بتنهيد: وقلبي يعصره الحزن والأسى
ــ معذرة يا أبنائي لم أستطع أن أجلب لكم الثياب الجديد
فقال قائلهم بعدما أشاح بيده في وجهي , وقد غضب عليَّ
ــ ومن سيأتي لنا به يا أبتي إلا أنت ...؟!!
فقلت لهم , بعد صمت طويل, وصوتي تحبسه غصة ودموع,
ــ ليس العيد لمن لبس الجديد وإنما العيد يا أبنائي لمن خاف يوم الوعيد
فرأيت أمهم قد انزوت عني غير بعيد, ثم نظرت لي وقالت, بصوت حزين
ــ املئوا قلوبكم بالفرحة وربكم رب قلوب, واذهبوا, العبوا مع الأطفال غير بعيد, وعندها خرجوا بثيابهم القديمة, ومعهم ألعابهم القديمة, وكرة صغيرة, يلبون نداء البراءة والطفولة, وجلست وحدي أبكي عليهم, وادعوا الله أن يرزقني من أجلهم, وأمهم لجواري, تؤمِّن على دعائي, وعندما جاء الليل, وأقبل المساء, قفلوا عائدين, ضاحكين, متهللين, سعداء, فأخذتهم في أحضاني بين يدي, ولاعبتهم, ولاطفتهم, وضاحكتهم حتى ناموا في حجري, هانئين, يحلمون بالجنة, وبكسوة العيد في العام, القادم, الجديد,
************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر
12/ 12/ 2019 ــ يوم الأحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق