على هامش عيد الثورة التونسية المجيدة
حتى لا يتحوّل من فجّر الحدث الثوري بتونس إلى حطب جاف.. قابل للإشتعال
حين لعلع الرصاص وبدأ يحصد رقاب المتظاهرين وتحوّلت تبعا لذلك العديد من القرى والمدن التونسية إلى مدافن ومداخن،وسارت قوافل الشهداء خببا في إتجاه المقابر ليوارى زينة شبابنا التراب،كانت تونس حينئذ تبكي بصمت تأففا وألما وحسرة على البراعم الشبابية التي تبرعمت أغصانها وأزهرت تحت ظلال القهر،الظلم والإستبداد،ثم دفعت حياتها بجسارة من لا يهاب الموت ثمنا للتحرر والإنعتاق من عقال الظلم المستشرى في البلاد ..
لم يكن أحد منا يعلم أنّ تحت الرماد لهيبا ،ولا كنا على يقين بأنّ الشباب الذي تربى وترعرع تحت ظلال “إمبراطورية الفايس بوك” قادر على تفعيل المشهد الثوري ومن ثم الإرتقاء به إلى منصة الإستشهاد..
هؤلاء الشباب هم الذين حركوا ركود سنينا وأفكارنا وهزائمنا السابقة،وهم من قال-لا-بملء الفم والعقل والقلب والدم للطاغية وأسقطوا نظامه مضرجا بالعار..
كان محمد البوعزيزي أوّلهم حين إرتدى لحافا ملتهبا بحجم الجحيم وخرّ صريعا ليصوغ بدمه ملحمة الرفض والإنتفاض على قيد الظالمين..وكانت الرسالة التي أرسل بها إلى-قصر قرطاج-جد واضحة ولا لبس فيها،إلا أنّ مضمونها كان عصيا على الفهم،على من أوغل في القهر وأدخل البلاد والعباد في بوتقة الفوضى والفساد،دون أن يعي أنّ العاصفة التي هبّت في ربوع سيدي بوزيد لتكنس ركام سنوات الجمر،قادمة إليه لترمي بأوتاد حمكه الجائر إلى مزبلة التاريخ ..
هذه الرسالة سرعان ما تلاقفتها عواصم عربية أخرى:طرابلس،القاهرة،دمشق،صنعاء..المنامة..والقائمة لم تكتمل بعد..ليبتسم ما يسمى ب” الربيع”الثوري العربي ويتوارى خلف التخوم شتاء الخمول..
قلت رسالة-تونس-مؤلمة في جوهرها،مقنعة بشجاعة شبابها وطلائعها وقدرة شعبها على الصمود والتحدي.
لكن الأمور ليست للأسف بهذه البساطة والوضوح لدى الحكّام العرب الذين أشاحوا بوجوههم عن المطالب المشروعة لشعوبهم وتركوها تتنزّى في القيود..
الظلم يرث الإنتفاض..ومن القهر تتوالد الثورات ليأخذ التاريخ مساره الصحيح..وتتدحرج-أرائك وثيرة بمن يجلسون عليها في نشوة داخل قصورهم العاجية-إلى القاع حيث لا شيء غير الندم وصرير الأسنان..
من “إفهمتكم” إلى”من أنتم” إلى “فاتكم القطار”..ولعلّ القادم أعظم..فقد تتفتّق قريحة “حكامنا الأفذاذ” على ألفاظ وعبارات تبعث على التفكّه و التندّر ..وتهبط بخطابهم إلى الحضيض..
الثورة ببلدي لن تأكل أبناءها،وهذا ما أراهن عليه إيمانا منّي بأنّ دماء الشباب لن تذهب هدرا،فكل قطرة دم سالت من أجسادهم الغضّة،إنما هي نبراس يضاء على درب الحرية والإنعتاق..كما أنّ التاريخ لن يرحم كل جبّار عنيد أوصل شعبه إلى حافة اليأس،بعد أن أوغل في القهر والإستبداد..
قلت هذا،إيمانا منّي بقدرة شعبنا على تجنيب البلاد والعباد السقوط في وهاد الترجرج والتخلّف وكل أشكال الإنحطاط،ومن ثم الإرتقاء بتونس الكرامة إلى سدّة التمدّن والديمقراطية،وما التجاذبات التي نشهدها اليوم تحتدم بين الأحزاب السياسية حينا،و مكونات المجتمع المدني أحيانا أخرى،إلا دليل قاطع على أنّ الأجواء تعبق برائحة الوليد القادم : الحرية المشتهاة..
فهذا الشعب التونسي العظيم إستيقظ من سباته بعد أن أوغل ليله في الدياجير،وبدأ يسير بخطى حثيثة صوب الديمقراطية المبتغاة،ولن يتوقّف على المسير خصوصا بعد أن خلخل حسابات المنطق وجسّد هزّة عنيفة مخلخلة للوعي المخدّر والمستلب،وأضحى واقعا حيا ممهورا بالدّم وصنع تبعا لكل التداعيات إشراقات ثورية قدر الطاغية فيها الهزيمة والإندحار..
ما أريد أن أقول؟
أردت القول أنّ الشباب التونسي كان طليعياً في خطوات ملحمة الدم منذ اليوم الأول للحراك الثوري في 17 ديسمبر 2010،وصولاً إلى يوم فرار المخلوع/الراحل في 14 جانفي 2011.لكنّه صار الضحيةالأولى،بامتياز،لعملية الاستيلاء الممنهج على مفاصل الدولة.
وعندما أقول الشباب،إنما أعني بالقول كل قطاعاته،ممن يناضلون من داخل جامعاتهم ومدارسهم الثانوية،وأولئك الذين استطاعوا بإرادة شبابية فذة إشعال الأحياء الشعبية والأرياف وهجاً ثورياً،لكنّهم تعرّضوا لحملة تحييد واختزال لدورهم في الحراك الميداني،وجرت محاولات عديدة لاستعمالهم أداة تنفيذية في الجسم الحزبي والخصومات الإعلامية..
في هذا السياق بالتحديد،أكّد البنك الدولي،في السنوات القليلة الماضية،أنّ الشباب التونسي يعانى من ارتفاع معدل البطالة والإحباط،مشيرا إلى أن لديهم حضورا محدودا في عالم السياسة،ومازالوا يواجهون حالة من التجاهل وعدم التشاور المنظّم معهم بشأن القضايا الرئيسية التي تمسهم مباشرة في البلاد.
وأضاف البنك في تقرير صادر بالتعاون مع مركز مارسيليا للاندماج المتوسطى،بحسب وكالة الأناضول،أنّ المواطنة الفعالة والمشاركة المدنية الواسعة بين الشباب التونسي،أمر ضروري لإستمرار الزخم الإيجابي للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد،وتحقيق الإستقرار السياسي.
وإذن؟
نحن اليوم إذا على أبواب مرحلة هامة من مراحل بناء ديمقراطيتنا واستدامتها،يتضح أن الطلاب والشباب المعطّل عن العمل والشباب العامل يتخذ على نفسه مسؤولية ومهام متفقة مع رهانات المرحلة،ويعود إلى الساحة الوطنية بنفس جديد،وإرادة في التنظيم والفعل لا يستهان بها،كما أنّه أمام سؤال تشبيك العلاقات والروابط فيما بينه وطنياً،ومع التنظيمات والنقابات الشبابية العالمية..
إنّ الحصن القوي والواقعي لتونس ما بعد -14 جانفي- هو جيل يحمل قيم الحرية والعدالة والكرامة،ويعمل لها وفيها من خلال مجتمعه وعبر مؤسسات دولته..
وما على النخب السياسية إلا استيعاب الإقبال الشبابي على العمل النقابي والمدني ومن ثم تشريكه في الحياة السياسية،خدمة للمشروع الديمقراطي والاجتماعي الذي تناضل من أجله التنظيمات الشبابية في تونس ما بعد الثورة..
ولكن..
ما يبعث على القلق هو النسبة المتدنية لمشاركة الشباب في الاقتراع.وهو ما يرسّخ المخاوف من استمرار الفجوة بين النخب السياسية من جهة،والشباب من جهة ثانية،على الرغم من كون الشباب-كما أسلفت-هم الذين فجّروا الحدث الثوري،لكن خيبة الأمل التي أصيبوا بها بعد ذلك شكّكتهم في أهمية الديمقراطية وجدواها..
وأرجو..أن تصل رسالتي إلى عنوانها الصحيح..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق