الاثنين، 23 ديسمبر 2024

على هامش "ظاهرة" تكريم المبدعين بعد رحيلهم "الجثة"..لا تحتفي بالإطراء والمديح..ولا بالتكريم..! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 على هامش "ظاهرة" تكريم المبدعين بعد رحيلهم


"الجثة"..لا تحتفي بالإطراء والمديح..ولا بالتكريم..!


هذا المقال مهدى إلى المبدع التونسي الكبير فتحي الهداوي*..في رحيله القدري..


تقديم :عندما اشتد المرض على الدكتور علي الوردي** وبعد أن تجاوز الثمانين من عمره أرسلت له دعوة لتكريمه في أحد النوادي الأدبية أو الثقافية -وهو المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي المعروف- فاعتذر بهذا البيت «لأبي فراس الحمداني»:

أَتَت وَحياض المَوت بَيني وَبَينَها

وَجادَت بِوصل حَيث لا يَنفَع الوَصل!


قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن تكريم المبدع بعد رحيله يكاد يكون سمةً سائدة في المشهدين الثقافيين: التونسي والعربي حيث يتسابقان لتكريم المبدعين بعد رحيلهم والاحتفاء بهم وتسمية الشوارع والميادين بأسمائهم ونشر إبداعاتهم مجددًا،فعلى المبدع العربي أن يموت حتى يكون له وجود على خريطة الاعتراف والاحتفاء رسميَّا،في حين أن الثقافات الإنسانية المتقدمة تحتفي بالمبدعين الحقيقيين في حياتهم ونجد أن الجوائز الأدبية الكبرى في هذه الثقافات لا تُمنح إلا لمبدعين أحياء «احتفاءً بالحياة لا بالموت»، كجائزة نوبل وغونكور وبوليتزر وغيرها من الجوائز الأدبية التي يمثِّل الحصول عليها تتويجًا واحتفاءً بالمبدع في حياته،ذلك التكريم المؤجل يعكس خللًا أزليًا ويولد العديد من التساؤلات ونقاط الاستفهام..!

قبل أشهر قليلة من وفاته تم تكريم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش من خلال إطلاق اسمه على أهم الساحات في مدينة “رام الله” حينها تحدث الراحل الكبير عن هذا التكريم قائلاً: “ليس من المألوف أن يُكرَم الأحياء فالموتى لا يحضرون حفل تأبينهم،وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن أسمعه فيما بعد”، وقبله كتب جمال الدين الأفغاني يقول في ذلك: ” الأديب في الشرق يموت حيّاً ويحيى ميّتاً”.

وفي بلادنا ( تونس) على المبدع كذلك أن يوارى الثرى حتى يحتفى به..!

كلام الأفغاني ودرويش خير تعبير عما يعانيه المبدع لدينا في مختلف مجالات الحياة..

وهنا أسأل :إليس  تكريم المبدع على عمل وإنجاز يقوم به هو بالأصل والأساس ظاهرة ثقافية وسلوك حضاري في حياة أي شعب أو مجتمع وتحافظ على التوازن الثقافي والفكري للمبدعين في سائر المجالات سواء الأدبية أو العلمية أو الاقتصادية أو الاجتماعية..؟

ألا يُمثل الأدب تأريخ ثقافة الشعوب كونه يُعزز الوعي بالهوية الوطنية ومواجهة التحديات الفكرية والإجتماعية التي تمر بها البلدان العربية..؟

وكمحاولة للإجابة أقول :

تكريم المبدعين بعد موتهم جميل،ولكن الأجمل أن يكرموا في حياتهم،وخلال رحلة عطائهم،حتى يشعروا ببهجة هذا التكريم، بين أحبتهم وأهلهم ومحبيهم،ويشترط أن يكون التكريم لائقاً ومميزاً، حيث إن الإبداع موهبة،وإن تكريم المبدع في حياته يرفع من معنوياته أكثر فأكثر،فيزداد إبداعاً وإشعاعا،والمبدعون في جميع المجالات،بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية،يمثل التكريم بالنسبة لهم اعترافاً من المجتمع بإبداعاتهم..

اِن ظاهرة تكريم المبدعين وذكر خصالهم الحميدة بعد موتهم لم تكن حكراً على الثقافة العربية،إنما هي عقلية عربية،فالموت عند الإنسان في الثقافة العربية يرتبط بالكمال،وعليه أعتقد أن هذه الامتدادات التراثية أثرت على السلوك الثقافي وهو أننا لا نحتفي بالتجارب إلا إذا مات صاحبها،وهذا الأمر يجب تجاوزه من خلال إعادة علاقتنا..

نعم يا تونس..فلا بعد الموت تكريم،ولا بعد المرض عرفان، وسيكون من اللائق جداً أن يكرم المفكرون والمبدعون في أوج عطائهم كمحرك لتطور الوطن بتطور مبدعيه وتحفيزهم ودفعهم إلى الأمام،فاجعلوا التكريم مرتبطاً بالحياة لا بالموت..

وهنا أختم بكلمة أخيرة منبجسة من خلف شغاف القلب: التكريم الحقيقي للمبدع..هو أن تصان كرامته في وطنه..وأن تحترم كلمته..ومن هنا تجدر الاشارة إلى أن الكرامة التي أقصد إلى إثارة الانتباه إليها ها هنا،ليست تلك الكرامة التي يربطها البعض برغد العيش وهناء البال،والتي يحققها التمتع بأزاهير الحياة من مطالب طينية،حيوانية،رخيصة،إنما الكرامة التي أقصدها هي مُعْطًى فطريٌّ جاء مع الإنسان إلى هذه الحياة،وليس لأحد أن يَمُنَّ به على أحد. فالتكريم ثابت في حق الإنسان “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (الإسراء،70)،وهو “ملكية فردية” له،لا يحق له أن يتنازل عنها.ومن فرَّط فيها ضلَّ الطريق،وسار إلى إهانة نفسه،لذلك لا أعتبر الكرامة “مطلبا” بالمفهوم النقابي للكلمة،لأنه لا أحد قادر أن يمنحها لك،ولكنها “مِلْكٌ”من فرَّط فيه،أهان نفسه،وأوردها مهالك الاستغلال،والإهانة،والعبودية.

إن ثورة الكرامة إذاً،هي ثورة الحكم العادل الذي يحترم حقوق الإنسان وقدرة الأفراد على تقرير مصيرهم واختيار نمط الحياة الذي يريدون.

ختاما أقول : أكرموا من تحبّون وهم على قيد الحياة..ولا تجعلوا منهم أحياءً على قيد الممات".

وأرجو أن تستساغ رسالتي جيدا..وأن لايقع إخراجها عن سياقها الموضوعي..


محمد المحسن


*أدعو إلى استحداث مسابقة وجائزة دائمة فى التأليف المسرحى تحمل اسم "فتحي الهداوي " تقديرا لهذا المبدع التونسي القدير وإسهاماته التى أثرت المسرح والسينما والدراما تونسيا وعربيا وتخليدا لمسيرته الفنية الحافلة على مدى أربعة عقود.

**علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 13 جويلية/ تموز 1995 م)،وهو عالم اجتماع عراقي،وأستاذ ومؤرخ وعُرف بتبنيه للنظريات الاجتماعية الحديثة في وقته،لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي،وكذلك استخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية،كما فعل في كتاب وعاظ السلاطين وهو من رواد العلمانية في العراق.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق