على هامش "الصمت العربي الخلاّب" في ظل محرقة غزة !
"متى ستُسعفنا الحقيقة..لتحرير فلسطين كلٍ منا"؟
(شعراء عرب كتبوا عن فلسطين..ليحفروا الحقائق بأقلامهم في ذاكرة التاريخ..سلامٌ عليهم..وقلبٌ لهم.)
-الشعر محطة أدبية قريبة من الناس،وسلاح المُقاوم العربي في وجه تزييف التاريخ،وطمس الحقائق،وتغييب العقول..(الكاتب)
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن النّفس البشرية عند الأديب تتماهى مع الواقع لتصوغه في شكل تجليات تعكس ما يمور داخل الوجدان العام من أحاسيس ومشاعر،ولهذا كان الأدب سبّاقا في سبر أغوار الأمة وفهم تداعياتها في حالتي الإنتصار والإنكسار بما من شأنه أن يشخّص الهموم ويحدّد ملامح المستقبل المنظور ويرتقي بمشاعر الإنسان إلى مرتبة الوعي والتحدي..
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :
ما الداعي لأن يكون الحبر على الورق فنّا،له ضوابطه،وأهدافه؟ أولسنا جميعًا نجيد الكتابة؟ وما جدوى الصفحات التي تُكتب في قضية كفلسطين الهوى والهُوية؟ أيحرر الكتاب وطنًا، وهو الذي لا يقوى على الصمود في وجه الرياح!
وهل تنصت آذان التاريخ لما يكتب حقًا،أم أننا نحفر الكلمات على جداول المياه؟
النهضة الأدبية ما قبل الثورات :
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن الثورات عبر التاريخ كانت مسبوقة بنهضة أدبية وفكرية تستبصر آفاق الطريق وتؤسس للإنعتاق والتحرّر وتسمو بطموحات الأمة إلى الغد المنشود،مثلما حدث في الثورة الفرنسية والثورة الروسية،فلقد كانت مثلا روسيا القيصرية بلدا متخلّفا لكنّه أنجب في القرن عمالقة الرواية والمسرح والقصة القصيرة في العالم: دوستويفسكي،تولستوي،تشيكوف،غوغول..اخترقوا حصار التخلّف ونجحوا في صياغة الواقع: جدلا حيا مع الماضي والحاضر والمستقبل إقرارا منهم بأنّ أحدا لا يملك الحقيقة المطلقة،وأنّ آراءنا جميعها ليست أكثر من اجتهادات نسبية مهما استحوذنا على أدق أدوات التحليل،وبهذا استطاعوا كوكبة واحدة:نقادا وأدباء..-رغم أسوار التخلّف العالية-أن يكونوا طليعة الثورة الثقافية الروسية قبل فلاديمير لينيين،وكان ذلك عطاؤهم الحضاري للعالم الجديد،بالرغم-أكرّر من مطبات الركود والتخلّف..
ومع تكتل المُجتمعات الحديثة،تباين الأدب أشكالًا،فهذا أدبٌ روسي تقرأ فيه لميخائيل ليرمنتوف،وليو
تولستوي،ودوستويفسكي،وهذا أدب إنجليزي فريد،وهذا أدب عربي،يتوج بلغة القرآن،ذات المرادفات الكثيرة،والبلاغة العالية،والانتشار الواسع،منه الأدب الأندلسي، والعباسي،والحديث،وأسماء واسعة كثيرة،تؤرخ كل فترة عاشها المسلمون،في صورة فنية مقبولة.
أن تقرأ كتابًا مضى على كتابته نحو خمسين سنة،فهذا يعني أنك اجتزأت قطعة من الزمن واحتفظت بها لنفسك.
إشراقات فلسطين في عيوننا :
انطلاقًا من هذا المعنى جرى سيل الشعر العربي في تحرير فلسطين،تحريرها في العقول من قيود العجز والتأخر التي نصبها لنا المُحتل وصغاره.فرأينا محمود درويش الذي استل قلمه في وجه الاحتلال،فجالت قصائده الآذان كلها،وترددت أبياته التي تنصر الحق،وتجسد معاناة الفلسطيني في كل صباح منها:
آهٍ يا جُرحيَّ المُكابِر
وَطني ليسَ حقيبة
وأنا لست مُسافر
إنّني العاشقُ،والأرضُ حبيبة
ويقول أيضًا:
أسمِع يا صَديقي ما يُزلزل الأعداء
أسمعهُم من فجوةٍ في خيمةِ السماء :
"يا ويلَ مَنْ تنفست رِئتاه الهواء
مِن رئةٍ مَسروقة!
يا ويلَ مَن شرابه دِماء!
ومَن بَنى حديقةً ترابّها أشلاء
يا ويلَه من وردها المَسموم!"
وهنا أسأل :
ألم يكن الإرتباط العاطفي والقومي الحميم بين الثورة والجماهير هو الذي شدّ في البداية قطاعات عريضة من النّاس لشعر محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو ومظفر النواب..وهو نفسه الأمر الذي تكرّر في الحرب اللبنانية،حيث انعكس هذا الإرتباط في شعر شوقي بازيغ وغيره..
ألم يتمكّن الراحل نزار قباني بشعره من تحرير مساحات لا بأس بها من أرض الوجدان العربي المحتل بالأمية والخوف والقهر،وهناك كثيرون غير نزار،ولكنه الأكثر شعبية..
أليس هو القائل :
يا قدسُ،يا منارةَ الشرائِع
يا طفلةً جميلةً مَحروقةَ الأصابِع
حزينةٌ عيناكِ، يا مدينةَ البتول
يا واحةً ظليلةً مرَّ بها الرسول
حزينةٌ حِجارةُ الشوارع
حزينةٌ مآذنُ الجوامِع
لقد تركت نكبة فلسطين عام 1948 أثراً واضحاً في التاريخ المعاصر،فهي أشد ضراوة وأطول عمراً وأكثر عمقاً،ما جعلها أكثر إثارة لمشاعر الشعراء الذين تركوا لنا تراثاً أدبياً خصباً،يمتاز بالصدق في العاطفة والبراعة في التصوير والسمو في الرؤى.
ولعلّ فلسطين بحضارتها ومعاناة أهلها وخلود هويتها العربية كانت أبرز محاور الإبداع في عدد من قصائد الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي (قصيدة-لنحمي الأقصى والإسلام معا..-نموذجا)
هذا الشاعر الفذ ما فتئ شعره يلهج بذكر فلسطين،ويستغيث الشعوب لنجدة أهلها.
لنحْمِي الأقصَى والإسلامَ جَمْعا!
فِلسطيني أنا قد ضِقتُ ذَرْعا/فصُهيونٌ طغى والأهلُ صرْعى/نموتُ اليومَ في حرْبٍ ضروسٍ/وصدرُنَا في الوَغى قد بات دِرْعا/نلاقي الموت لا نَنْأى بِدربٍ/ونتلو مِن كتابِ اللهِ سَبْعا( 1)/رأيتُ الأهل يمشون الهُوَيْنا/لحَتْفٍ قادَهُمْ صُهيونُ جَوْعى/أبادوا طفلَنا معهُ نِساءٌ/شيوخٌ غرَّروا فيهم..أشَرْعا؟/فلا ندري متى تأتي المنايا/ولكن في الوغى نمشيهِ طوْعا/نُضَمِّدُ جُرحَنا وَنسُلُّ سيْفاً/لِقهْرِ
عدوِّنا،نُرْديهِ صَفْعا/وإن مِتْنا فأرضُ العزِّ تبقى/فِلسطيني أنا للنّصرِ أسْعى/فأرْضي مِنْ دَمي نسقي ثَراها/كغيْثٍ قد هَمى؛ لِيَكونَ زرْعا
فذرْني مَعْ بَني صُهيونَ ثأري/فقد هَدّ البِنى وأراقَ دمْعا/أعُربي،يا بني ديني فَهيّا/نُقوِّضُ عرشَ مُحتلّينَا؛رَدْعا/نُعينُ مُقاوِماً ونفُكُّ أسرى/ونحمِي الأقصَى والإسلامَ جَمْعا!
طاهر مشي
*1)سبعا أي نقرأ السّبعَ المثاني أي (الفاتحة )
هي فلسطين إذا،تاريخ طويل من النضال وإرث خالد من البطولات،وسجل ناصع للشهادة،تتراكم عبر الشعر الذي قيل فيها معاناة الفلسطينيين وأحزانهم النبيلة وصمودهم المذهل،كما في القصيدة التالية-التي صيغت بحبر الروح للشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير :
أرَى نصْرَ( غزّةَ) قادِماً..وستَنْجَلي
أرَى نصرَ غزّةَ والهزيمةُ لِلعِدا
والنِّتنُ يُقهَرُ والبِلادُ..تعودُ لي
(غزّا )تُحاسِبُ كلَّ مُجرِمِ دَكَّها
وتقولُ للدّنيا انظُري..وَتأمّلي :
"أللهُ معْنا ناصِراً عَلى (نِتْنِهِمْ)
مَهْما أَبادَ،فلنْ يَفوزَ..بِأَنْمُلِ
فالأرضُ أرْضي والسّماءُ مِظلّتي
ثَرَواتُ أرْضي لَن تكونَ..لِقاتِلي
ثَرَواتُ أرضي والبِلادُ وقُدسُها
(غزّا )،لنا لن تُستباحَ..بِمَقتَلِي
(غزّا) تُحاسِبُ (بايْدِناً) وفَصيلَهُ
ماذا جنَى الأطفالُ..كيْمَا تُقتِّلِ ؟
ماذا جنيْنا كيْ نُبادَ وَنُبتَلى ؟
قُطِعَتْ رؤوسُ..مَعَ الأيادِي وَأرجُلِ
ذابتْ جُسومُ تبخّرتْ..يا ويلَكمْ!
أيُّ السّلاحِ اختَرتُموهُ..لِمَقْتَلي؟
تحت التّرابِ دِمانَا تسألُ قاتِلاً:
أيْنَ الجُسومُ وأينَ بيتِي؟..وتعتَلي
ما تفعلوا ( بالغازِ) بعدَ إبادَتي؟
سيكونُ ناراً في الحَشا.بِهَا تصْطَلي
ثَرَواتُ تحت الأرضِ باقيَةٌ لَنا
بِدِمانَا نحرُسُها وَعيْنِ..مُقاتِلِ!
هكذا كتب الشُعراء وغيرهم كُثر لنصرة فلسطين،من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، تربطهم الهُوية،وتجمعهم الأمة صفًا واحدًا على هوى فلسطين التي تسكننا لا نسكن فيها،كتبوا ليحفروا الحقائق بأقلامهم في ذاكرة التاريخ،ليحفظوا عهدهم بفلسطين،وينصروها ما كانت أقدامهم على الأرض..
سلامٌ عليهم..وقلبٌ لهم.
تجليات المقاومة الثقافية :
جميع ما سبق يندرج تحت مُسمى "المُقاومة الثقافية" التي نحن في حاجة شديدة إليها،إذ هي دعامة رئيسة في الحرب التي يديرها الاحتلال ومؤيدوه علينا كل يومٍ؛ ليهدموا مبدأ يجمعنا،أو يُشتتوا فكرة نحاول تنفيذها.يؤلمهم أن نعرف،أو أن نقرأ،وقعُ هذا الأمر عليهم كبير،فهم يعلمون أننا متى قرأنا وفهمنا قضيتنا حقًا وعرفنا قدر تاريخ أمتنا،لن نتفرق،بل سيجمعنا الهدف، وتوحدنا القضية،ولذلك ليس أسعد منهم عندما يروننا غرقى في بحار الجهل والتخلف،يقتل بعضنا بعضا،وضرورة المُقاومة المُسلحة لا تقل عن ضرورة المُقاومة الثقافية لهذا الاحتلال الغاصب،فهم يحشدون الدبابات والبنادق ليأخذوا ما ليس بحقهم،فما الداعي من أن يدافع صاحب الحق عن أرضه بشتى الوسائل..!
وبعيدا عن سياج المُحتل الإسرائيلي الغاصب،بعيدا عن بنادقه التي سيلقى حتفه بها يومًا ما،هناك..في وطن كلٍ مِنا-نحن العرب-ثمة مُحتلٌّ-يرتدي قناع-تنكري-يحكمنا،يتواطأ مع انتهاكات المُحتل،ويُطأطئ له الرأس باسمًا..!
والسؤال الذي يقض مضجعي :
كيف آلت بنا الحال،ليحكمنا-حفاة الضمير-وبعض الجبناء..؟!
لا أعرف كيف وهنت عزائمنا،وارتعشت أيدينا،لنكون لهؤلاء تبعًا..!
ويبقى السؤال-عاريا..حافيا-يصرخ-بصوت مخنوق- :
"متى ستُسعفنا الحقيقة لتحرير فلسطين كلٍ منا"؟
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق