(قصة بقلمي ،مستوحاة من حادثة الأم التي جرفتها مياه الأمطار في سجنان رحمها الله رحمة واسعة )
"جسر الحوريات "
"غسالة النوادر " ...رددت هذا الاسم بابتسامة حالمة وهي تشاهد وابلا من المطر يتهاطل غزيرا يروي أرضا أرهقها العطش شهورا طويلة ...
لم تكن بداية الخريف، وهو الزمن المناسب لهذه الأمطار وإنما أواخر شتاء قاس عانت فيه القرية من شح المياه ،وندرة التساقطات .
إنها أزمة ماء ...
لم تكن شيماء لتستوعب وهي تستمع إلى الراديو الذي كان يؤنس صباحاتها ويطلعها على مايحدث خارج أسوار بيتها الريفي في قريتها النائية ، أنّ أزمة المياه يمكن أن تصل إلى هذا الحدّ ، ومضات توعية تدعو إلى ضرورة الاقتصاد في الماء وترشيد استهلاكه وتنذر من شر فقدانه ، برامج حوارية تناقش أزمة المياه وسبل حلها ، وبين هذا وذاك أصوات تستغيث داعية إلى صلوات الاستسقاء، فالوضع ينذر بشرّ مستطير ...
إنّ الله رحيم بعباده ،يجيب دعوة الضعفاء وها قد استجاب إلى أدعية رجال قريتها ونسائهم .
كانت تشعر بدفء لذيذ يسري في جسدها وهي تستمع إلى قطرات المطر تنقر نافذة مطبخها نقر الطيور ، وتسعد بمشهد المياه وهي تسري في جسد الأرض فتحييها بعد ممات ...ما أروع المطر وما ألذ وقعه على مسامعها ...!
عادت بذاكرتها إلى سنوات الطفولة ،وتذكرت كيف كانت تخشى المطر وترتعب كلما داهمتها الأمطار وهي في طريق العودة من المدرسة الى البيت وقد تبكي بكاء مرا إذا ما تعلقت الأوحال بحذائها أوأصاب ثيابها بلل ...
كانت طفلة من هؤلاء الأطفال الذين يخوضون صراعا يوميا من أجل الوصول إلى مدرسة تفصلها عن بيوتهم كيلومترات ولا يملكون للوصول إليها سوى أقدام صغيرة وعزيمة قوية ورغبة عارمة في دراسة تحررهم من قيود الفقر والجهل وتفتح لهم أبوابا من الأمل .
كانت طفلة ،وكان أكثر ما يخيفها هطول أمطار غزيرة ،فالطريق إلى المدرسة موحش مخيف ،تضطر فيه إلى عبور جسر خشبي تآكلت ألواحه واهترأت ،يغطي واديا كثيرا مافاضت مياهه وأتلفت محاصيل الأراضي القريبة منه ...وفي الواقع لم يكن إتلاف المحاصيل ما يخيفها وإنما يخيفهاذلك الجسر ...
الجسر المتوحش ،هكذا كانت تسميه فقد ارتبطت صورة الجسر والوادي في ذهنها بصورة "جسر الحوريات " ذاك الجسر الذي كانت قد حدثتها عنه جدتها ،وحكت أن تنينا يسكن واديا يغطيه جسر مصنوع من أغصان الأشجار ،
يهاجم أهل القرية القريبة من الوادي كلما هطل المطر غزيرا ويتلف محاصيلهم ويقتل من اعترض سبيله من أبنائهم ،فعقدوا معه اتفاقا تمثل في تقديم أجمل فتيات القرية قربانا يلقونه إليه من ذاك الجسر اتقاء لشره ،وسمي ذلك الجسر ب"جسر الحوريات" ...
كانت كلما مرت به أصابها فزع شديد وهي تتخيل مشهد الفتيات يلقى بهن إلى التنين ...
يالبراءة الأطفال ويالسذاجتهم !
ابتسمت شيماء ابتسامة ساخرة وهي تتذكر القصّة ثم تجهّم وجهها فجأة وتمتمت كمن يخاطب نفسه :"ليست سذاجة " ،قالت ، "بل هو الخوف من المصير المحتوم لفتيات في قرى يحكمها سلطان الجهل والفقر ...الفتيات في هذه القرى هن القرابين دوما!".
خيمت ظلال الذكريات على سمائها وألقت بسحابة من حزن بدت آثاره واضحة على وجهها ورددت في حسرة "الفتيات هن دوما القرابين".
تجاوزت شيماء الخامسة والعشرين من عمرها ،تزوجت وأنجبت ولكنها لم تنس يوم اختارها القدر قربانا !
كانت أختا لثلاثة فتيان في أسرة فقيرة تجاهد لكسب قوت يومها وتكابد المشاق لتسد رمق أبنائها ، ولكنها تطمح الى تحسين اوضاعهاواوضاعهم وتأمل في غد أفضل لهم ...
حرص أبواها على تعليمها وإخوتها ،ولكن الحمل كان ثقيلا وكان لابد من تخفيفه ...
لايمكن لها أن تنسى يوم قرروالدها حرمانها من المدرسة حتى يتمكن إخوتها من مواصلة تعليمهم .صوته لايزال يقرع سمعها وهو يردد "الفتيات للزواج وأزواجهن أولى بنفقاتهنّ ".
تزوجت شيماء وفي قلبها حسرة ...كانت تخشى الجسر والوادي ولم تكن تعلم أن جسر الحياة وواديها أخطر وأقسى !
أعادها صوت الراديو إلى الواقع ،وإذا بصوت المذيع وهو يحذر من أمطار طوفانية يحيي فيها ذلك الخوف الدفين ...
فجأة تذكرت أبناءها الثلاثة الذين رافقتهم قبل ساعتين إلى مدرسة القرية ، نظرت إلى الساعة الحائطية المعلقة على جدار مطبخها الدافئ، وارسلت زفرة ارتياح ،لازال في الوقت متسع .
كشفت الغطاء عن آنية الطعام لتحريكه ،فانبعثت الروائح زكية تملأ فضاء المطبخ ،سعدت بها شيماء وتخيلت سعادة أبنائها وهم يحتسون طعامهم المفضل في هذا اليوم الممطر ...
كان طعامها المفضل هي الأخرى حينما كانت في مثل سنهم ،كانت أمها وسائر نساء القرية يحتفين بالأمطار ويستبشرن بها ويعبرن عن سعادتهن بما يطبخنه من أطعمة لذيذة تشيع الدفء في الأجساد الصغيرة لأبنائهن ...
غسالة النوادر ،هذا الإسم أيضا رسخ في ذهنها كما رسخت اغلب حكايا جدتها التي لطالما أضاءت ليالي الشتاء في طفولتها ..
غسالة النوادر ،أمطار غزيرة تهطل في بداية فصل الخريف.
أمطار خير وبركة ،تروي عطش الأرض وتغسل أدرانها ، فترى الفلاحين يستبشرون بهطولها، ويتفاءلون بموسم فلاحي ناجح ،ويتسامحون مع ما يمكن أن تخلفه من أضرار فخيرها اوفر وأبقى ...
هكذا تحول خوفها من الأمطار إلى استبشار بقدومها وبهجة باجوائها ،كيف لا وهي الضامنة لمورد رزقها الموفرة لقوت يومها .
تنفست شيماء الصعداء حين تذكرت أن بعض ماعانته في تلك الشهور القاسيةمن فقر وخصاصة سيتلاشى بفضل امطار الخير ،فقد خسرت وبعض نساء قريتها عملهن في الضيعات الفلاحية بسبب الجدب والجفاف ...ابتسمت ابتسامة ساخرة وهي تكاد تسمع صوت والدها وهو يردد "النساء للزواج ونفقاتهن يتحملها أزواجهن " ...
ضحكت بمرارة وهي تسترجع مشهدا يجمعها ونساء قريتها العاملات في شاحنة لنقل البضائع ،وهن يسابقن الشمس قبل طلوعها ليصلن مبكرات إلى ضيعات فلاحية اختار أصحابها النساء ليخدمنها ،فالنساء أكثر صبرا، والنساء أقل أجرا ...
ضحكت ورددت في سخرية مُرة "النساء هن دوما القرابين"
نظرت إلى الساعة ثم تو جهت الى الموقد لإطفائه وغادرت المطبخ.
تدثرت بشالها الصوفي ولبست حذاء بلاستيكيا يقيها مياه الأمطار ، وسلكت طريق المدرسة فقد حان موعد عودة الأبناء وعليها مرافقتهم وحمايتهم من الجسر، والوادي ،والتنين ....
حبيبة عداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق