على هامش أزمة المثقف العربي
هل آن الأوان للعقل العربي كي يتحرر من أوهامه..التي يزداد ارتكاساً فيها..؟!
“المثقفون لديهم مشكلة:عليهم تبرير وجودهم.”(نعوم تشومسكي)
مقدمة :
إن المراجعة التي يقوم بها الغرب لدور المثقف لا يمكن إسقاطها تعسفاً على الواقع العربي،لا لشيء،وإنما لأن المثقف هناك عبر برازخ من التحوّلات والتجارب والاستبدالات.الغرب يغذ السير على طريق التحول،وأنجزت الثقافة فيه الدور التحريري والتنويري الضروري في مراحل سابقة،أوصلت الغرب إلى ما هو عليه اليوم من نهضة،بينما المثقف العربي يعيش سياق التخلف التاريخي والاستبداد السياسي والفساد،ما يؤكد ضخامة الرسالة الملقاة على عاتق المثقف العربي والمهام المنتظرة منه في النقد والتحليل والتنوير والتحديث.
ليس من موضوع أسيل فيه مداد كثير،كما أسيل في موضوع المثقف العربي وأزمته.فمنذ عقود من الزمن ساد في الأوساط الفكرية والثقافية العربية حديث أزمة المثقف،وانتشرت لازمة الأزمة بوجه خاص منذ أن نشر المفكر المغربي عبد الله العروي1 كتابه باللغة الفرنسية “أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخانية؟” في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي،حتى ذهب الظن إلى أن المثقف العربي ولد وفي أحشائه أزمته.!
ويمكن القول بأن التساؤل المتكرر والدائم عن أزمة المثقف العربي يخفي وراءه-بطريق المداورة-الشعور بالموقع الرئيس الذي يحتله في البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمعات العربية الحديثة،ومدى الرهان الملقى عليه في التحولات المتوالية، والإحساس بالحاجة إلى دوره المتزايد.وبصيغة أخرى،فإن التساؤل الملح عن أزمة المثقف العربي ينطوي-بشكل ضمني-على الشعور بأن هناك وضعا شرطيا،مفاده أن خروج المثقف من أزمته شرط للنهوض والخروج من التخلف.
ونحن نعتقد بأن استئناف المثقف لدوره من جديد،يتأتى من خلال مدخل يربط النظر بالفكر،والقلم بالعمل،ويتمثل ذلك في هبوط المثقف إلى الهموم اليومية التي يعيشها المواطن العربي،بدل التنظير من خلال برج عاجي يعزل المثقف عن الناس ويعطي عنه صورة رجل التأمل المجرد المُفاصل للواقع المنقطع عن الحياة العامة.أما المدخل الثاني فهو يرتبط بإعادة تحديد العلاقة بين الثقافي والسياسي،في ظل هيمنة هذا الأخير في المشهد العربي اليوم،وهيمنته على مختلف جوانب النقاش العمومي،وتهميشه لدور المثقف.
ولكن..
منذ سنوات والمثقف يتعرض لتقريع،وحتى إدانة ومطالبة له بالانسحاب من دورٍ لم يعطه إياه أحد،أو حسب تعبير جان بول سارتر،من مهام لم يكلفهُ بها أحد،وعلى سيرة سارتر بالذات،فجإن البعض إذ عَدّ القرن العشرين قرن المثقفين،فإنه كان قرن سارتر، في فرنسا على الأقل،بوصف سارتر مثقفاً وداعية .
اليوم،مع تقدم المعرفة وفحص الأوهام،بدأ التساؤل عن دور المثقف،عن المثقف الملتزم في إطار التجدد المستمر للفكر الغربي. في فرنسا ذاتها يُطور بورديو سوسيولوجيا للمثقفين يكشف فيها أنهم ليسوا ملائكة،ليسوا كائنات فوق الجاذبية الاجتماعية،بل هم كائنات لها مصالح واستراتيجيات هيمنة وإرادات قوة كغيرهم من الفئات .
ثمة نموذج جدير بالانتباه هنا هو ريجيس دوبريه الثوري اليساري المتطرف في ستينات وسبعينات القرن الآفل الذي رافق تشي غيفارا،وذهب إلى حمل السلاح في أدغال أمريكا اللاتينية،فإذا به اليوم من أشد منتقدي الدور الاجتماعي للمثقفين،إنه يتحدث عن نهاية اليقينيات،وانقشاع الأوهام الأيديولوجية التي تغشى الأبصار .
هذه الحمّى من النقد انتقلت إلى الوطن العربي أيضاً،فمنذ الثمانينات الماضية أصدر محمد عابد الجابري كتابه: الخطاب العربي المعاصر الذي قرَّع فيه دور المثقف العربي،لأنه كلما اشتدت عليه وطأة الواقع،وجد ملاذه في مزيد من الهروب إلى الأمام، وقد دفع هذا إلى الاعتقاد بأن ثمة حاجة إلى إعمال أدوات التحليل النفسي في رصد سلوك المثقفين العرب لرؤية عُقدهم .
في إيقاع قريب من هذا لم يهادن جورج طرابيشي المثقفين العرب في نقده لهم،إذ ميز بين ما يدعوه الصدمة والرضة.فبرأيه أن الصدمة يمكن أن تؤدي إلى فعل إيجابي في الأداء الجمعي،أما الرضة،كتلك التي أصابت العرب بعد هزيمة،1967 فهي التي أمرضت الوعي العربي وخطابه معاً،أو على الأقل هي التي أتاحت المناخ النفسي الملائم لجرثومة المرض الكامنة في الوعي العربي، لتنمو وتتطور وتحطم دفاعات الصحة وتجعلها فريسة مستباحة لمحفزات اللاشعور .
إن المراجعة التي يقوم بها الغرب لدور المثقف لا يمكن إسقاطها تعسفاً على الواقع العربي،لا لشيء،وإنما لأن المثقف هناك عبر برازخ من التحوّلات والتجارب والاستبدالات.الغرب يغذ السير على طريق التحول،وأنجزت الثقافة فيه الدور التحريري والتنويري الضروري في مراحل سابقة،أوصلت الغرب إلى ما هو عليه اليوم من نهضة،بينما المثقف العربي يعيش سياق التخلف التاريخي والاستبداد السياسي والفساد،ما يؤكد ضخامة الرسالة الملقاة على عاتق المثقف العربي والمهام المنتظرة منه في النقد والتحليل والتنوير والتحديث .
الحديث هنا يدور، بالتأكيد، عن المثقف التنويري المندمج في العصر،وأياً كانت المآخذ والسلبيات وأعراض الذي يعانيه هذا المثقف،فإن ذلك لا يقلل بحال من مسؤولياته إذا شئنا للعقل العربي أن يتحرر من أوهامه التي يزداد ارتكاساً فيها .
منذ سنوات والمثقف يتعرض لتقريع،وحتى إدانة ومطالبة له بالانسحاب من دورٍ لم يعطه إياه أحد،أو حسب تعبير جان بول سارتر،من مهام لم يكلفهُ بها أحد،وعلى سيرة سارتر بالذات،فإن البعض إذ عَدّ القرن العشرين قرن المثقفين،فإنه كان قرن سارتر، في فرنسا على الأقل،بوصف سارتر مثقفاً وداعية .
اليوم،مع تقدم المعرفة وفحص الأوهام، بدأ التساؤل عن دور المثقف،وعن المثقف الملتزم في إطار التجدد المستمر للفكر الغربي.
في فرنسا ذاتها يُطور بورديو 2 سوسيولوجيا للمثقفين يكشف فيها أنهم ليسوا ملائكة، ليسوا كائنات فوق الجاذبية الاجتماعية، بل هم كائنات لها مصالح واستراتيجيات هيمنة وإرادات قوة كغيرهم من الفئات .
ثمة نموذج جدير بالانتباه هنا هو ريجيس دوبريه.3 الثوري اليساري المتطرف في ستينات وسبعينات القرن الآفل الذي رافق تشي غيفارا،وذهب إلى حمل السلاح في أدغال أمريكا اللاتينية، فإذا به اليوم من أشد منتقدي الدور الاجتماعي للمثقفين، إنه يتحدث عن نهاية اليقينيات، وانقشاع الأوهام الأيديولوجية التي تغشى الأبصار .
هذه الحمّى من النقد انتقلت إلى الوطن العربي أيضاً،فمنذ الثمانينات الماضية أصدر محمد عابد الجابري كتابه: الخطاب العربي المعاصر الذي قرَّع فيه دور المثقف العربي،لأنه كلما اشتدت عليه وطأة الواقع،وجد ملاذه في مزيد من الهروب إلى الأمام،وقد دفع هذا إلى الاعتقاد بأن ثمة حاجة إلى إعمال أدوات التحليل النفسي في رصد سلوك المثقفين العرب لرؤية عُقدهم .
في إيقاع قريب من هذا لم يهادن جورج طرابيشي 4 المثقفين العرب في نقده لهم،إذ ميز بين ما يدعوه الصدمة والرضة.فبرأيه أن الصدمة يمكن أن تؤدي إلى فعل إيجابي في الأداء الجمعي،أما الرضة،كتلك التي أصابت العرب بعد هزيمة ،1967 فهي التي أمرضت الوعي العربي وخطابه معاً،أو على الأقل هي التي أتاحت المناخ النفسي الملائم لجرثومة المرض الكامنة في الوعي العربي، لتنمو وتتطور وتحطم دفاعات الصحة وتجعلها فريسة مستباحة لمحفزات اللاشعور.
ما أريد أن أقول ؟
إن المراجعة التي يقوم بها الغرب لدور المثقف لا يمكن إسقاطها تعسفاً على الواقع العربي،لا لشيء،وإنما لأن المثقف هناك عبر برازخ من التحوّلات والتجارب والاستبدالات.الغرب يغذ السير على طريق التحول،وأنجزت الثقافة فيه الدور التحريري والتنويري الضروري في مراحل سابقة،أوصلت الغرب إلى ما هو عليه اليوم من نهضة،بينما المثقف العربي يعيش سياق التخلف التاريخي والاستبداد السياسي والفساد،ما يؤكد ضخامة الرسالة الملقاة على عاتق المثقف العربي والمهام المنتظرة منه في النقد والتحليل والتنوير والتحديث.
الحديث هنا يدور،بالتأكيد،عن المثقف التنويري المندمج في العصر،وأياً كانت المآخذ والسلبيات وأعراض المرض الذي يعانيه هذا المثقف،فإن ذلك لا يقلل بحال من مسؤولياته إذا شئنا للعقل العربي أن يتحرر من أوهامه التي يزداد ارتكاساً فيها.
محمد المحسن
هوامش :
-1عبد الله العروي :مفكر ومؤرخ وروائي مغربي، يعتبر من المفكرين الذين اتخذوا التاريخانية الجديدة مذهبا وفلسفة ومنهجا للتحليل، كما يُعد العروي أيضا من أنصار القطيعة مع التراث العربي والإسلامي ومن دعاة تبني الحداثة الغربية كقيمة انسانية.
2-پيير بورديو (بالفرنسية: Pierre Bourdieu) (1 أوت 1930- 23 جانفي 2002) عالم اجتماع فرنسي،أحد الفاعلين الأساسيين بالحياة الثقافية والفكرية بفرنسا،وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر.
3-جول ريجيس دوبريه (بالفرنسية: Régis Debray) (من مواليد 2 سبتمبر 1940) هو فيلسوف فرنسي،وصحفي،ومسؤول حكومي سابق،وأكاديمي.معروف بنظريته في الميديولوجيا،وهي نظرية نقدية في انتقال المعنى الثقافي في المجتمع البشري على المى البعيد،وبارتباطه بالثوري الماركسي تشي غيفارا في بوليفيا خلال عام 1967،وبدعمه لرئاسة سلفادور أليندي في تشيلي في أوائل السبعينيات من القرن العشرين.عاد إلى فرنسا خلال عام 1973 وشغل فيما بعد العديد من المناصب الرسمية داخل الحكومة الفرنسية.
4-جورج طرابيشي (1939م - 16 مارس 2016م)، مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري. تخصص في نقد الأدب وشرب من ينابيع الفلسفة الوجودية والتحليل النفسي، وترجم عشرات المؤلفات،ثم خصص ربع قرن من حياته لنقد المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري موجها له انتقادات لاذعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق