الكتابة..ووجع السؤال..
"أنا أتألمُ،بينما أنتم تَمدحونَ كتاباتي"..كافكا
-يوم ضعف كتاب السلاطين وتلقوا الصفعات المتلاحقة من كتاب عشقوا الوطن وجدنا اليوم من يكتب عن الجرح ومن سبب الجرح .نعم انهم كتاب ثورة أعادوا شخصية الكاتب والشاعر الذي كان يكتب من قلب المعاناة ايام حروب التحرير.إنهم لا يكتبون على مقياس احد ولا يعبدون اصنام المنافع الذين يلقون لهم بالفتات .انهم ثوار الوطن وبلابله التي تغرد في آن معا.( الكاتب الفلسطيني المتميز عبد السلام جمعة )
أنكتبُ لأنفسنا أم للآخرين؟ أندافعُ بكتاباتنا عن بؤسِ العالم وبؤس الوطن أم أنَّ الأمر برمته لا يعدو كونه تسريبات لمعركة النفس الداخلية؟ ترى أيستحقُ العالم من الأساس أن يُفني أحدهم العمر من أجل الكتابة عنه وعن بؤسه اللامتناهي؟ أيستحق العالم كتابات ماركيز وبن نبي ودستوفيسكي وبيجوفيتش وكامو وكونديرا وغيرهم؟ اقرأ العالم يوماً صفحة واحدة مما كتبوه بعقل الواعي المتدبر الباحث عن الحقيقة وعن التغيير؟ ولماذا نكتب من الأساس إذا كان وقع الواقع ووطأته أكبر من حجم كلماتنا؟ وما وسعُ اللغة أن تفعله أمام سيلٍ من تدفقات الحياة اليومية التي لا تنتهي إلا بنهايتنا؟
تبدو هذه الأسئلة سرمدية للوهلة الأولى،ولا إجابات لها، على الأقل في أفقنا الفلسفي والمعرفي حالياً،وأن ما يقدم بشأنها من إجابات لا يتخطى الرؤى الشخصية التي تعبر عن تجارب شعورية ذاتية مع الكتابة. لكن وبنظرة متفحصة لهذه الأسئلة، فإننا نجدها لا تخرج عن سؤال واحد، مكون من كلمتين: لماذا نكتب؟ وما يأتي من سطور لا يعدو كونه محاولة متواضعة لتقديم رؤية شخصية لسؤال: لماذا نكتب؟ رغم اعترافي الصادق بصعوبة هذه المهمة، وربما استحالتها.
الكتابة هي مهنة-شاقة كما قال لي ذات يوم حين إلتقيته بمكان ما بدمشق الجاسرة والجسورة-رفيقي الراحال المبدع حنا مينه،والكتابة-على حد قوله -مثل باقي المهن إلا انها تختلف عن المهن الاخرى في أنّ الكاتب لا يتقاضى اجرا لانه احساس وشعور يحس به الكاتب ويترجمه كتابة.
الكتابة ليست نزهة-بل مسيرة إحتجاج..كما قال المبدع المغربي الراحل محمد شكري-(صاحب الرواية الشهيرة: الخبز الحافي ) (pain nu )
وإذن؟
الكتابة إذا،الهام-قد تنزل من السماوت القصية مع إيماني بالذات الإلاهية-وليس كل شخص يمسك قلما وورقة يعني انه كاتب متمرس،فالكتابة فن من الفنون يمارسها الانسان ليس شرطا عن طريق التعليم ولكن إبداع بإمكانكم فك أحجيته...!!
تسألوني لماذا يكتب الكاتب-وأنا في زمن متخَم بالمواجع..ومفروش بالرحيل..؟!
استطيع ان اقول لكم ان الكاتب هو قلب الحدث يصور لنا ما يحدث بأمانة واخلاص ويترجم هذا على ورق.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:؟
هل الكاتب يعاني اثناء الكتابة اشد المعاناة لانه يستخدم تفكيره ويسترجع الأحداث بدقة متناهية ..؟!
..ليس لدي جواب..فقط أقول :
انا اكتب لاشارككم افراحكم واحزانكم بعدما طفح الكيل واشتد الكرب في بلادنا العربية،والصمت يعلو ويصرخ ان هبوا لنصرة الشعب الفلسطيني..
ولكن..
ليس من مجيب!.لم اعد قادرا على تحمل ما ارى واسمع سواء في الأخبار او الصحف او الفضائيات من قتل وتشريد في المخيمات (تابعو اليوم المشهد الدموي بغزة الصامدة في وجه الآفاقين وحفاة الضمير) وقلبي يتفطر ألما وحزنا وليس بيدي حيلة ان اقدم شيئا سوى الشرود والوجع.
وإذن؟
جلست بيني وبين نفسي والقلق يعتريني فالتزمت الصمت ووجدت نفسي امسك قلما وورقة دون سابق انذار والافكار توديني وتجيبني مثل المد والجزر تائها لا اعرف من اين ابدأ واين انتهيت ؟!
تخيلت نفسي في قلب الحدث والطائرات تقصف العمارات وتهدم البيوت وتقتل النساء والدخان يتصاعد للسماء والطاغية -نتنياهو-يفتك بشعبنا بفلسطين والعرب جالسون يتفرجون على مأساة دون حراك.
وبقيت فترة من الزمن مع افكاري الشاردة والمتناثرة هنا وهناك.
احترت من اين ابدأ..!؟
ابدأ من ضياع مقدساتنا ام على البطالة والفساد في بلدي-العربي-الموجوع في نخاع العظم..؟!
في غزةَ التي تُعاني،واقعاً يعاني من جملةٍ مُشتبكةٍ من مفراداتِ الألمِ تبعاً للظرف السياسي وما يقضيتهِ من استمرارٍ لهذه المُعاناة الجمعيّة وسحبها إلى مناطقٍ أكثر بشاعة يوماً بعدَ يوم، ينبغى لنا أن نسألَ في ضوءِ ما تقدم،كيف يُعالِجُ الأدبُ هذه المعاناة بسردِهِ وشِعرِه؟ هل يَعكِسُ الأدبُ المعاناة كما يراها المجتمع،فيكون مرآته كما هو الحال لدى مناهج النقد الاجتماعيّة،أم يستند إلى معالجاتٍ مستقلةٍ فرديّةٍ حداثيّةٍ تتجاوزُ مفومَ المعاناةِ في سياقِ كونها نتاج الظرفِ السِياسي،إلى المعاناة في سياقِ ارتباطها بالوجودِ الإنساني ومشكلة الإنسان وأسئلته وقضاياها وقلقه؟
خلاصة القول :الأدب ليس هو هذه اللحظات العذبة الجميلة،التي نستمرئها،ولا تلك الإرهاصات المجنحة الطموح التي نستشعرها، فحسب،بل هو أيضاً هذا العمل الخلفي الدؤوب.الذي نجد فيه تعميق الحياة وتكثيف الزمن،واستنفار الحواس وتوتر الأعصاب. فقراءة صفحة أدبية ما هي إلا تراكم من الزمن،وعامود طويل من الجهد والعناء.إن بناء الكلمات لأتعب بكثير من بناء الحجارة.وإن ابتكار الصور واشتقاق المعاني لأصعب من شق الصخر.فدقيقة واحدة من القراءة يبيت لها الأديب ساعات وساعات،وهو مؤرق مشدود ذاهل يتجول في مخبؤات بواطنه وتجليات ذهنه الكزوز. يستلهم.يستشرف يرفض. يبذل، حتى يصل إلى بؤرة همومنا. فيحدثنا عن ذواتنا.ويستشف حدوسنا.ويلامس الجوانب الخفية فينا.أو يجد الشيء الضائع منا.يدلنا عليه ويضيفه إلى وجودنا. يحكي لنا قصة ذاك الحيوان الأزلي،القابع فينا،المعذب في إنساننا، والمضغوط بأثقال الوعي وأوجاع التبكيت والقسر.ولعمري.الغوص في أعماق المجهول،والتفتيش عن الأشياء المفقودة من قسمنا الإنساني الأعظم،أو إيجاد الأجزاء الناقصة من نفسنا الكبرى،التي نستكمل بها جميعاً شخصيتنا لهو عمل شاق.ولكنه سام وفوق العادة!
قبل ستة عقود كتب ألبير كامو «إن دور الكاتب لا يخلو من المهام الصعبة.ولا يستطيع أن يضع نفسه اليوم في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ،فهو في خدمة أولئك الذين يعانون من التاريخ.» يرى كامو في الكتابة ليس فقط مواساة لحظية أو شخصية لمن يعانون في لحظة ما،بل إنه يرى فيها مواساة للتاريخ،تاريخ المهمشين والضعفاء،تصبح الكتابة هنا صوت من لا صوت له، صوت لأولئك الذين عانوا ويعانون من سويداء قلوبهم ولم يسمع بهم أحد.
الكتابة بهذا التصور هى صوت المنسيين.ضحايا التاريخ الذي لا يحترم إلا الأقوياء.
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق