التوثيق في رواية " ابن العاقر "للكاتبة زهرة الحواشي.
بقلم: لطيفة الشامخي
ظهرت الرواية الوثائقية بعد الحرب العالمية الثانية و قد شدّت إليها الأنظار منذ خمسينات القرن العشرين حيث جاءت بمفاهيم جديدة لبنائية الرواية و دفعت بالروائيين إلى النظر إلى معطيات جديدة في الواقع المجتمعي و الخروج بالنص السردي عن المألوف.
و يُعدّ التوثيق في الرواية من سمات رواية ما بعد الحداثة، فالرواية الوثائقية هي أحداث متخيلة داخل الحدث الأصلي و قد يدور ذلك حول شخص أو جماعة و في فضاء يُطوّعه الروائي لبناء الحدث حسب تصوّره و مخياله.
و التوثيق في الرواية يكمن في كيفية إيصال المعرفة للمتلقي و ليس في الحقائق المجردة، و يصبح الخيال هنا مسموحا به، و للمحافظة على طابع الحقيقة يستند الروائي إلى مراجع توحي بمصداقية الحدث، و قد يكون المرجع وثائق و مستندات كما قد يكون الرواية الشفوية و التي كان لها دورا كبيرا في نقل التراث العربي و اللغوي.
و يبدو أنه حال رواية "ابن العاقر" للكاتبة زهرة الحواشي، إذ كانت عبّرت على أن هذه الرواية من الواقع و شخصياتها من ربوع الشمال الغربي من تونس الوطن، و كانت شاهدة على بعض فصولها، حتى أن أغلب الشخصيات احتفظت لها بأسمائها الحقيقية و سماتها.
في رواية "ابن العاقر" تقص علينا الكاتبة حكاية ربح بنت الضاوي التي تزوجت من ابن عمها عن حب ثم طُلّقت منه بعد عشرة امتدت لسنوات لأنها لم تُنجب له أطفالاو سُجّلت أنها عاقر، لكنها تتزوج من علي بالخمري بعد سنوات من طلاقها بغاية تربية طفله الذي توفيت أمه وهي تلده، لكن تحصل المعجزة و تنجب ربح من زوجها الثاني ولدين و قد عدّت الخمسين من العمر، و تبدو الرواية في مظهرها شبه سيرة غيرية، لكن لا أظن أن الكاتبة أرادت فقط أن تروي لنا حكاية ربح بنت الضاوي و معجزة حملها، لأن ما نلحظه أن الكاتبة انتهجت منهج التوثيق لنمط العيش في ذاك الريف و العادات و التقاليد و اللهجة و اللباس، الأماكن و المدن و بعض الأحداث الوطنية و بعض المعارك ضد المستعمر و الدور الذي لعبه الفلاقة في إشعال فتيل المقاومة.
و قد جاء التوثيق في الرواية ليس من باب الطرافة أو لمجرد الذكر بل من باب حفظ الذاكرة من النسيان.
و قد اشتغلت الكاتبة على السرد التوثيقي و حشدت له كل الشواهد الممكنة عينية كانت أو عن طريق الرواية، و بينما تسرد الحدث تُعبّر عنه بدرجة عالية و تصفه في سبر مشهدي بدقة متناهية، و ربما كانت ترمي بذلك إلى تجديد الوعي بالتاريخ و بموروث ثقافي اجتماعي لتلك الجهة من البلاد.
و يتداخل في رواية "ابن العاقر" التخييلي مع الواقعي، و إذا سلّمنا أن التخييل جوهر أساسي في العمل الإبداعي فإن التخييل في هذه الرواية ليس معزولا عن الواقع و لا فاصل بينهما إذ نجده أحد تمثيلات المخيال الاجتماعي الذي يمثل الواقع تمثيلا أمنيا و ينتمي إلى جذر اجتماعي في ذاك الريف من الشمال الغربي.
و تضمّن الكاتبة زهرة الحواشي ذلك في روايتها بالتوثيق لحفظ الذاكرة من النسيان.
-* التوثيق لبعض العادات و التقاليد في النفاس و المواسم و الأفراح، و نذكر من ذلك الهدايا و المصوغ من الفضة الذي تتلقاه المرأة النفساء من زوجها، و حفل ختان الناجي(ص90) و كيف النسوة يملأن أواني بالماء و يضعن أرجلهن و يضربن بخلاخيلهن مع أم الطفل حتى لا تسمع صراخه و لا يعتريها الخوف و الهلع و البكاء.
-* التوثيق للأكلة التونسية الشهيرة الكسكسي، و كسكسي الأفراح له تقديم خاص فهو يُرشّ بالحمّص و الزبيب أساسا ثم يوضع اللحم فوقهما.
-* توثيق اللباس التقليدي لأهل تلكةالربوع مثل: القشابية و البرنوس للرجال، و الملحفة و حزام القيطن و الذراية و المحرمة للنساء، و البلغة هناك بلغة للرجل و أخرى للمرأة، و الحولي.
-* توثيق بعض المصوغ مثل: الحلقة، الحجر، الخرص، الدبلح،.. إلخ.
-* توثيق مواد الزينة للمرأة: الكحل، الحرقوس، الحناء، السواك، من المواد التي تطوّرت مع العصر و دخلت الاستثمار.
-* توثيق المنسوجات و أدوات النسيج التقليدية مثل: المرقوم، القشاشيب، البرانيس، خيوط الطعمة، القرداش، المشط، المغزل، الخلالة، و التي أصبحت اليوم على قائمة أدوات الصناعات التقليدية.
-* توثيق مساحيق التنظيف مثل: الطّفَل، الكريستو الأبيض، النيلة الزرقاء.
-* توثيق الحلويات التقليدية مثل: الحلوى الجاوية الذهبية و الحمصية، حلوة الزقوقو، الحلوى قصب، و مازلنا نراها في الأسواق العامّة.
-* توثيق الأغاني التراثية: فقد أتحفتنا الكاتبة بعديد الأغاني التي توارثتها شخصيات الرواية و تغنّت بها، أغاني كموروث ثقافي لسكان الشمال الغربي منها: " يافاطمة لاث ريقي يا رفيقي ص21" و "الكركار حرامو ص22" و "يا طير يا طيّار ص47". و أغنيات "التربيج" بالصغار بالصفحة61 "سعدي بيك..سعدي بيك..حنة و زغاريد عليك..عين الحاسد ما تذيك" أو بالصفحة 68 " ننّي ننّي جاك النوم..أمّك قمرة و بوك نجوم" و مازالت بعض الجدّات تردّدن ذلك إلى اليوم.
-* توثيق الأمثال الشعبية؛ نجد في الرواية طرافة في بعض الأمثال الشعبية الواردة مثل: " السّلفَة سَلُّوفة و الضّرّة حَّلُّوفة" و أيضا " ساس الرمل لا تعليه، يعلا و يطيح ساسو ، و ولد الناس لا تربيه يكبر و يعرف ناسو".
و عن الشاي تأتي القولة كطرفة " طيبوني على الفحم، و اشربوني على اللّحم".
-* توثيق مصباح الإنارة العتيق: "القازة" وهو مصباح الكاز الذي أصبح من التراث و نراه اليوم عند بائع الأنتيكات.
-* التوثيق لبعض النباتات البرية التي نجدها في الأرياف و الجبال مثل: البوحليبة، التيفاف، و التوت البرّي.
-* التوثيق لبعض التسميات و المصطلحات مثل: " الفيلاج" و تعني القرية، " الكيلو وْ مْيا" يعني كيلو من السكر و مائة غرام من الشاي، " الشاهي" بمعنى الشاي، " ترّاس" و تعني الذكر.
-* توثيق اللهجة: و قد جاء الحوار باللهجة المتداولة بين سكان المنطقة و قد أخذ حيزا من الرواية حتى أن علي الخمري عندما كان يروي لربح قصة سقوطه في الوادي و فرسه و كيف أنقذه الضاوي أخذ أكثر من صفحتين وهو شأن أهل الريف إذا تحدثوا أطنبوا في الحديث و الوصف، و نذكر على سبيل المثال للهجة قول ربح " نا ولدي الناجي و الأخرين أولادك أنت" و "نا" تعني "أنا" الذات المتكلمة.
-* توثيق ملحمة الجرجار و المقاومة التونسية حتى لا ننسى: كلما تقدمنا بين صفحات الرواية نجد أن الكاتبة كانت تقصد إبلاغ معلومات محدّدة أرادتها أن تصل إلى المتلقي فقد أتت على ذكر أماكن دارت فيها معارك ضد المستعمر الفرنسي قادها رجال أطلقوا عليهم اسم "الفلاقة" مثل: معركة جبل برقو، و معركة جبل عرباطة، و معركة جبل المالوسي، و ملحمة " الجرجار" المنوبي بن علي الخضراوي الذي أعدمه المستعمر و الشادلي بن عمرىالقطاري،
" برى و إيجا ما ترد أخبار علجرجار
يا جماعة شوفو ما صار
القطاري معاه الجرجار".
هذا إلى جانب أحداث واقعة الجلاز في 11 نوفمبر 1911.
و لم تفوّت الكاتبة التذكير ب " اليد الحمراء " التي قامت باغتيال بعض رموز الحركة الوطنية و ظهور " اليد السوداء " كقوة مضادة.
و هذا لم يرد اعتباطيا في الرواية أو لمجرّد الديباجة بل لتسليط الضوء على حقبة من القرن الماضي بكل ما فيها من أحداث و تفاعلات عاشها سكان الشمال الغربي بكل فصول التاريخ الذي عاشوه و كل موروثهم الثقافي و الاقتصادي و حياتهم الاجتماعية.
و لم تغفل الكاتبة أن تدخل بنا تونس العاصمة نتبع ربح بنت الضاوي لتصف لنا ساحاتها و شوارعها و أنهجها و بناياتها و مؤسساتها و خاصة أبوابها القديمة و التي لم يبق منها إلا القليل أما جلها فقط المكان بقي يحمل الاسم.
" ابن العاقر " رواية تأخذنا في رحلة مع عدسة كاميرا تلتقط توثّق و تعلّق و كأنّنا أمام الشاشة الكبيرة في قاعة سينما، نعيش الحدث بكل تفاصيله و نتفاعل معه بكل أحاسيسنا، هذا إلى جانب أن هناك عديد الفقرات في فصول الرواية مع بعض التصرف يمكن أن تُدرج في كتب القراءة للغة العربية في مراحل التعليم الأساسي لما فيها من تعريفات لبعض المناطق بالبلاد، و ثمة أيضا التثقيف و التعريف بالصناعة اليدوية قديما كالنسيج، إلى جانب المواقف الإنسانية و القيم الإجتماعية.
" ابن العاقر " من الروايات التي تُقرا في العائلة و تترك فينا أثرا.. فمتى نراها تتحسّد فيلما سينمائيا؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق