مرايا..متشظية
هذه ليست دمشق الوارفة..التي كانت..!
سرت في اتجاهك العمر كله،وعندما وصلت،انتهى العمر”.(الشاعر الراحل مظفر النواب)
-المنفى يمشي في قلبي/في خطواتي في أيّامي/المنفى كالحبّ يسافر/في كلّ قطارٍ أركبهُ/في كلّ العرباتِ أراهُ/حتّى في نومي يمشي كالطرقات أمامي/في هذا العصر/يكون الإنسان/ويُعرَفُ مِن منفاهُ»(مظفر النواب)
تقدم بي العمر كثيرا ونهشتني المواجع في نخاع العظم..يدي اليمنى ترتعش،وإصبعي لا يصلح للضغط على الزناد.. ! بالأمس كانت المحيطات تنام بحضني،والنوارس تهجع على كفي..كنت طائرا غريبا يحط على غير سربه..سكنت ببغداد وتجولت في شارع الرشيد وكتبت رسائلي للغرباء على ضفاف دجلة والفرات..وابتعت كتبي من شارع المتنبي الفسيح،واحتسيت قهوتي الصباحية بمقهى الشابندر التراثي القديم..ومن بغداد إلى دمشق سافرت على أجنحة الضيم،بعد أن ذرفت دموعا بحجم المطر تحت تمثال أبي الطيب..وقبل أن يفقد شارعه رونقه الجميل..
بدمشق حططت رحالي،وكانت كالعروس البهية،تنشر رذاذ ياسمينها في الحارات القديمة على العابرين دون حساب..وكانت ملاذنا..إذ تقول وجودنا تقول وجودها الخاص حصرا..فلا هويّة لنا خارج فضائها..وهي مقامنا أنّى حللنا..وهي السّفر..كانت كفيلة بإخراجنا من مدارات الغربة والإغتراب،وإدخالنا في مسارات السكينة،وهدوء الوجدان الباحث عن نقاء الروح في زمن الهزيمة والإنكسار..
في ساحة العباسيين،غرب دمشق،خاصرة الريف،مدخل حيّ جوبر ..تلمع أسماء خلفاء العصر العباسي وقد نقشت باللون الذهبي على رخامة وسط الساحة..اليوم لم يعد للتاريخ هناك أثر..!
أمر صباحا بساحة المرجة أقدم وأول ساحة عرفتها دمشق المعاصرة مع بدايات القرن العشرين.وساحة المرجة بتاريخها الحافل وتناقضاتها العجيبة وموقعها الاستراتيجي المميز وسط دمشق مع الأسواق المتفرعة عنها،جعلها مكاناً يجمع الخيال مع الواقع ويقدم قراءة لمفردات الحياة الدمشقية،لتأتي الساحة متفردة بكل شيء ومتميزة عن كل ساحات وميادين دمشق..
لم تعد دمشق اليوم،كتلك التي عرفتها منذ سنين..دمشق الوارفة..عاصمة الخلافة الأموية..مهد التاريخ..دمشق العروس البهية التي كنت أطل على جمالها من جبل قاسيون..
دمشق التي كانت تستقطب الناس من كل حدب وصوب،بالحدائق والبساتين والنواعير والأسواق والساحات.وقد أبدع ياقوت الحموي حين قال عنها : "ما وُصفت الجنّة بشيء،إلا وفي دمشق مثله"، وقال عنها ابن حوقل: "هي أجمل مدينة من مدن الشام تقع في أرض مستوية"
كما لم تعد بغداد ( بلاد الرافدين ) وعاصمة الرشيد التي أسسها المنصور وكان يقصدها العلماء والنابغون والمثقفون والشعراء كما كانت..ليست نفسها الموجودة اليوم..!
ربما كان العراق،هو البلد الأكثر دويا بما جرى في حقيقة الأمر،للعرب جميعا..لكن ما ظهر بارزا على سطحه كان مترادفات سرية وعلنية في كل أرض عربية..
وهنا أختم بسؤال : من أين جاء كل هذا الخراب؟ وكيف صيغت أقدارنا وأرتسمت خطا مستقيما من حديقة البيت الأبيض إلى ساحة الفردوس في بغداد..ووصولا إلى ساحة المرجة بدمشق..!؟
ويظل السؤال حافيا عاريا ينخر شفيف الرّوح..!
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق