هنا تونس بتوقيت ثورة التحرير :
لا يجب أن تنتهي الحياة..إكراما لشبابنا الذين تسابقوا إلى الموت،إعلاء للحياة..وتمجيدا للحياة..
تقتادك الثورة التونسية من يد روحك،وتمضي بك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض. فأنت إزاء هذا الفعل الإنساني الجبّار،حائر على غير مستوى،ثمة دم أريق ولم تكن تملك سوى الحبر،وما من حبر يرقى إلى منصة الدّم.وحتى حين يمور الدّم في جسدك باحثا عن مخرج،فإنّك حينئذ ثائر لا شاعر.وليس معنى هذا أنّ الثورية تنافي الثقافة،أو أنّ الثقافة متعالية على الميدان،ولكن لابد من تفادي خلط الأوراق،فلا يمكن للمارسة أن تتحوّل إلى حكم قيمة أدبي،مع أنّ الحبرَ عرضة لإختبار دائم-لقد خلصنا من ترف الكتابة للكتابة وهي ذي الثورة،بوهجها وضرائبها البشرية،تعيد إنتاج السؤال التقليدي عن جدوى الكتابة..!
وإذا كان السؤال قاسيا أو عصيا على الجواب،فلنبحث عن صيغة ثانية:» هل من عزاء في الكتابة؟»
ويرسلك هذا السؤال إلى مستوى آخر من المشكلة،يتصل هذه المرّة بكينونة المثقف المتورّط بوجوده في زمن ملتهب :
هل قدرك أن تلبس هذا اللبوس الماسوشي،مقرّعا حيّزك الفيزيائي المحدود،بدعوى عدم صعوده إلى لحظة الإشتباك؟..
وحين يدخل المثقف العضوي-مع الإعتذار من غرامسي-على الخط،فإنّك في مستوى ثالث من الحيرة : كيف أمارس كمثقف وكيف أكتب كثائر؟
وفي كلتا الحالتين : ألست (بضم التاء) مثقلا بأسئلتي الوجودية،أنا المفرد في فضاء محذوف؟ فكيف أتحوّل إلى خليط فعّال في نسيج الجماعة؟
ولك أن تعتبر،في طفرة يأس أو ضجر،أنّ ماسبق ليس إلا دلعا لغويّا،وأنّ عليك أن تعود إلى سؤال الأسئلة عن دورك،مثقفا في هذه الملحمة.وساعتها لا مناص من مستوى جديد يدعم حيرتك الأولى،هو أنّ الثورة هي نشيد الجماعة ومرآتها،وليس الفرد إلى نبرة في إيقاعها الجمعي المتكاثر.
بهذا لن تكون ذاتك إلا بالحد الذي تسمح به الثورة،فهي تهدّد الثقافة بالتنميط.
وحين تنأى عن الإمتثال للثقافة السائدة،فمعنى ذلك أنّك اخترت الغربة-أمغترب ومثقف ثوري في آن..؟!
كيف تلتئم المعادلة..؟!
حين هبّت عاصفة السابع عشر من شهر ديسمبر 2010 لتخترق سجوف الصمت،وتنير درب الحرية أمام شعب ظل يرسف في الأغلال عبر عقدين ونيف من الظلم والظلام،في تلك اللحظات الخالدة تملّكني إحساس باللاجدوى..ماذا يمكن للمرء أن يفعل؟.
كيف يمكن أن يكون عمليا وهو لا يتقن غير الكلمات؟ !.
حتى الكتابة عن حدث جلل بحجم الثورة التونسية لا ترقى إلى منصة النضال.
كنت أدوّن جميع ما أرى،-مكتفيا- بالتفرّج على الدّم التونسي مراقا وعلى الجنائز تسير خببا في اتجاه المدافن..
هو ذا الموت فرجويا متوحّشا قاسيا فظّا بدائيا ساديّا همجيّا عاتيا ضاريا فاجعا.
هو ذا القتل على مرأى من الدنيا وحفاة الضمير..!
الأرض التونسية لم تصَب بقشعريرة ولا بإندهاش.إنّها تأكل بنيها..!
جميع التفاصيل التي اجتذبتني إليها دوّنتها.
معي الآن من التفاصيل ما يكفي لتأليف كتاب.
كيف يرتقي المرء إلى مستوى ما رأى،كيف يكتبه محاطا بهالته الأسطورية دون أن يقع في نقل الوقائع أو وصفه وصفا إخباريا مسطّحا يفقره ويلغي كثافته..؟!
كيف يكتب جانبه السحري الأسطوريّ المروّع..؟
الحياة أقدس من النص،والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات،لا سيّما إذا كان الفعل أسطوريا رسوليا على النحو الذي رأيت..
ولكن..
لا يجب أن تنتهي الحياة إكراما لشبابنا الذين تسابقوا إلى الموت إعلاء للحياة وتمجيدا للحياة.
أنا على يقين من أنّ الإستبداد سيظلّ يدحرج -غلاته وصانعيه-بإتجاه الهاوية حيث لا شيء غير الموت وصرير الأسنان.
يا تونس الصابرة نحتاج قليلا من صبرك الرباني فالرّوح محض عذاب.
-قصر قرطاج-ينوح في السرّ على «أمجاد» من سكنوه.وطائرة المخلوع/الراحل..ترتحل وتحلّق في الأقاصي في اتجاه المنفى البعيد.
والحرية تتمطى في اتجاهنا عبر الدموع.
ولنا أن نفرح.لنا أن نهلّل.وطوبى لأمهات الشهداء لأنهن عند الله يتعزين.
غريب أمر هذا الشعب التونسي لا يكتفي بالخبز بديلا عن الحياة والكرامة.
مدهش أمر هذا الشعب التونسي الذي ارتقى بقراره إلى منصة الإستشهاد.
ومدهش أيضا أمر هذا الشعب الذي اتخذ قرارات مصيرية يهون دونها الموت.
وإذن؟
هي ذي تونس إذن.زمان تكثّف حتى غدا مكانا وحكايات،أقاصيص وملاحم..سماء تنفتح في وجه الأرض..أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير.ثم يلتقيان.
الأرض والسماء يغدوان واحدا.
على سبيل الخاتمة :
لا تزال كلمة الرئيس الأمريكي السابق أوباما بُعيد لقائه بالرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي في شهر ماي من سنة 2015 تلامس عين الحقيقة إذ "أنجزت تونس أمورا خارقة خلال السنوات الخمس الماضية،ولكن تلك السنوات لم تكن قطّ باليسيرة.إذ يشعر الشباب بالإحباط لأنّ التغيّر الجوهري المنشود لم يحدث بسرعة أكبر،كما يواجه معظم التونسيّين إدراكهم أنّ الديمقراطية سباق ماراثون وليست بسباق عدْو عاديّ.
ولكنّهم رغم ذلك يحافظون على التزامهم الثابت بالنجاح حتّى وهم يواجهون خيبة الأمل والحقيقة القاسية..حقيقة ما يتطلّبه دفع عجلة الديمقراطية من عمل و جهد. و
تستند علاقتنا مع تونس على ركائز ثلاث إن هوت إحداها أحدق الخطر بالبنيان كلّه : ترسيخ الديمقراطية الفتيّة وتعزيز الأمن الذي اُمتُحِن بشدّة،وتحفيز النموّ الاقتصادي المستدام الشامل للجميع.
ويقع على عاتق الولايات المتّحدة وأصدقاء تونس الآخرين مسؤولية المساعدة كي يبقى هذا الأساس صلبا قدر الامكان والدعم لهذا الالتزام كي يؤدّي إلى النجاح والتأكّد من أن تحظى تونس بكل الفرص لتحقيق حلمها في الديمقراطية."
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق