الجمعة، 27 مايو 2022

جماليات المحسن بن هنية..في الإبداع الروائي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 جماليات المحسن بن هنية..في الإبداع الروائي

المحسن بن هنية صوت متميّز في الرواية التونسية،وأكاد أقول العربية الحديثة.يجبرك على الإصغاء إليه،على الرغم من تشابك شخصياته وموضوعاته..فرواياته تتوفّر على قدر من التجانس ووحدة الهويّة من النادر تحققه في سواه من المدوّنات السردية التونسية المعاصرة.
في هذه الدراسة سأحاول مقاربة روايتين ومجموعة قصصية لهذ-المبدع الشامخ- ولكن قبل ذلك أفضل أن أمهد-لهذه المحاولة المتواضعة-بالتوضيحات التالية:
أ-يتركز كل وكدنا على تقديم دراسة موضوعاتية تتغيأ ملامسة محتوى الوعي،وحتى اللاوعي،لتحليل الدلالة الضمنية تحليلا يهدف إلى تأويل العمل الأدبي بإظهار موقف الأديب من العالم،دون إغفال دور المحيط الخارجي في إنتاج هذا الموقف،وهو يقوم على المعالجة المحايثة،فينبني بذلك على التحليل النصي،دون أن يحول هذا بينه وبين استثمار منظورات بحثية أخرى،وفي مقدمتها المنظور النفسي.على أنّ القاعدة الأساس هي الكشف عن الرؤية انطلاقا من ملفوظات النص ومكوناته الفنية،لا بإسقاطها عليه.
ب-الحديث عن" التجربة الذاتية"يقتضي منا التأكيد على أنّ الكلام سيظلّ مرتبطا دائما،وعبر مسار هذه الدراسة،بذات الكاتب الضمني،أي بذلك الوجود الذي يبدأ وينتهي مع النّص،وليس عند المؤلف الملموس.L'auteur concret أو لنقل بأنّ التحليل سينصب حول "ذات"تبلورها متون هذه النصوص الإبداعية،ذات متجذرة في الواقع دون أن تكون تجسيدا مباشرا لشخص المؤلف،وأكثر ما تستطيع أن تكونه،هو أن تعبّر عن وجوده خلال لحظة الإبداع التي هي مجرّد جزء من وجوده المتعدّد..
*رواية "على تخوم البرزخ":
تموقعات السارد في المتن الحكائي :
إن حالة التشظي التي تعيشها الذات الساردة منحها القدرة على توظيف نظام الضمائر توظيفا ابداعيا راوح بالاساس بين ضميري المتكلم المفرد (أنا) وضمير المخاطب المفرد (أنت) في سياق من التداعي الحر والمنولوج الذاتي، وهذا يعني اعتماد الكاتب وببراعة فائقة طريقة في القص ونمطا من السرد بما قد أدى وظيفة سماها جيرار جينات " المطابقة بين المروي له والبطل" (1).
ولا عجب في ذلك طالما ان للسارد في فن القص شأنا اي شأن فهو -ليس مجرد صوت ينهض بالسرد فحسب بقدر ما هو شكل وراءه مداليل -(2) والسارد في هذه الرواية يحيلنا الى الصراع الاعمق وهو صراع - البطل مع نفسه- وسعيه الحثيث الى ايجاد نوع من التصالح والسلام الداخلي، وهذا مؤشر على رؤية الكاتب التي تنطلق من ادراك أنّ الانسان رغم صراعاته وتركيبه يظل باحثا عن الوحدة وقادرا على الوصول اليها في النهاية، وهو ما يعطي أملا في الانسان وفي مستقبله .
نحن هنا إذن إزاء شخصية مركبة متصارعة، تعيش صراعها مع نفسها ومع الأخرين بصدق وبقوة، تستطيع من خلالها - في النهاية- ان تصل الى نوع من الوفاق الباطني عبر فعل الكتابة وتنوع دلالتها: ارتعشت الجثة،قد تدب عوامل الحس فيها للجهود ثمرة حان حصادها . مزيد من الحرث ..يأتي الزرع ثماره كل حين(ص91)
وهذا يعني أنّ الراوي يؤسس لوعي التجاوز، وينجح في تجاوز الذات والمحيط عبر انخراطه في صراع عنيف مع الذات وطرقه لأبواب الخلاص أملا في في الانفلات من كل قيد يشد الى أوتاد الوراء، ولئن توسل بالحلم سبيلا لمساءلة الكينونة والصيرورة فذلك بسبب لحظة الشتات التي يعيشها، شتات الذات الموزع بين الوعي واللاوعي، وشتات الراهن بكل تداعياته المفجعة،الأمرالذي أتاح له القدرة على توظيف"تقنيات" إبداعية راقية تبدأ بالتكثيف والانزياح والإنابة وتصل الى كل ما يتعين فيه الإستيهام في تضاعيف النص،ومن ثمة يجوز القول إن قراءة هذا-العمل الروائي-قد تكون من خلال اللغة التي شكلته أي وراء مقاصد المؤلف،أو وراء الوعي الذي يعتقد أنه يختار اللغة ويسيطر عليها،ذلك أن السارد هنا -أب للنص- الذي أبدعه وليس سيدا عليه، طالما أن اللغة تأتي من اللاوعي، لا من الوعي الذي يعتقد أنه يرسلها، كما لو كان المبدع "الحقيقي" للنص مبدعا اخر،يقتفي اثاره المبدع المفترض و لا يلتقي به أبدا ..
لكن يبدو من غير الوجيه ومن خلال هذه -القراءة المتعجلة- مقاربة نص روائي باعتماد المجال اللغوي فحسب، سيما وأنّه قابل للعديد من المقاربات بتوظيف علم السرد والمناهج الشكلانية والإنشائية والسيميائية..لتحليله ونقده . إلا أنّ تركيزنا على الجانب اللغوي في هذه الاسطر،يحيل إلى أهمية اللغة باعتبارها من المداخل المباشرة في النص الأدبي وما ينفتح عليه من آفاق دلالية ورؤياوية شاسعة.
على سبيل الخلاصة :
لم يكن الكاتب حريصا على أن يكتب في آخر روايته تلك العبارة التقليدية التي تشير إلى أن الشخصيات الواردة في النص محض خيال نظرا لما تضمنته من شخصيات واقعية أو بالاحرى مقدمة بمنهج واقعي (ميشال –كلارا– هاماتا ...رفيقة..اسمهان) مثلما هناك شخوص خارجة من ضباب الاسطورة (رحمائيل...عقبائيل) وهاتان الشخصيتان تحيلان إلى المرجع العجائبي الذي يمتح من الخرافة والأسطورة وهو بذلك -ونعني الكاتب- يتماس مع تخوم العالم السحري لأبراهيم الكوني الروائي الليبي الذي إستفاد كثيرا من أصوله التي تعود الى الطوارق (قبائل تعيش في الصحراء الجنوبية) لينتج تخيلات ثرية لا تنسى عن عالم الصحراء، زاخرة بالإشارات إلى عالم الاسطورة والحكايات الفولكلورية والمعتقدات الأرواحية (الإعتقاد بان لكل ما في الكون وحتى للكون ذاته روحا أو نفسا، وبأنّ هذه الروح المبدأ المنظم للكون). الأمر الذي أثرى الرواية العربية وأضاف مستوى لغويا آخر إلى عملية القراءة.
وهذه الإشراقات الإبداعية تتجلى بوضوح في هذا - العمل الروائي- للكاتب المحسن بن هنية الذي إشتغل في "تشكيل عوالم روايته على الميثاقين الروائي والسيرذاتي دون أن يترك المجال لأحدهما كي يهيمن على الآخر" إلإ أنني لا أعرف هل من حقي أن أتساءل ما مدى الترجمة الذاتية في هذا النص ؟ ..
وما مدى المستحيل السردي فيه ؟..
سأترك هذا السؤال جانبا تماهيا مع ما قاله فلوبير-عندما أكّد أنه يكتب عن حياته الخاصة بحرية عندما تكون هذه الكتابة من خلال الآخرين،و أنه لا يحصل على هذه الحرية عندما يكتب عن نفسه مباشرة- ..
ومع ذلك في هذه الرواية لغة طازجة يشعر الإنسان أثناء القراءة بدفئها وحضورها وتوهجها، وقد نجح -الراوي- في الهروب من فخ الخطابة و تمكن من اللعب في المنطقة بين الواقعية وبين الخيالية،ذلك أن في النص بعض مناهج كلاسيكية تبرز من خلال تصوير الأحداث ووصف الشخصيات عبر راو مستقل يستخدم لغة تقريرية هادئة، بينما تتكفل مقاطع من السرد بالإيهام بالجو الفانتاستيكي والحلمي بإعتماد شعرية اللغة،وهذه اللغة هى إحدى ميزات الرواية وأهم مآزقها، فهي رفعت من قيمة السرد وكانت في الوقت نفسه كابحا ومعوقا لتفاعل القارئ مع الحدث وبخاصة في المفتتح الشعري الموحي بالغموض في البداية والذي ما أن يتجاوزه القارئ حتى ينفتح له عالم الرواية وتتجلى له آفاقه.
ملاحظات أخيرة
قد قدّم لنا محسن بن هنية في هذه الرواية تجربة تتسم بالخصوبة والعمق وأفلح عبر لغته الدقيقة والمتماوجة وعبر المواقف المتنوعة بين الحلم والشعر والوصف والحوار وعبر البناء الدقيق والمتتابع مع الإسترجاعات الزمنية التي تغني اللحظة الراهنة، في أن يقدّم لنا إبداعا روائيا صادقا وعميقا يعكس بأسلوب بارع صراع الإنسان وبحثه الدؤوب عن معنى الحياة الضائع ويترجم في ذات الآن مساءلة الذات في تطوافها المضني عبر تجاويف الكينونة وتصادمها المحموم بين رغبة البقاء وحتمية العدم ..
وهو بذلك ضمن لنا متعة الإبحار في عالم إبداعي لا ضفاف له رغم ماتضمنته بعض مقاطع الرواية من أبعاد رمزية يتتطلب فهمها من القارئ مجهودا تأويليا كبيرا ..
*رواية"المستنقع"أو"التحليق بجناح واحد":
المستنقع:رواية هموم المجموعة:
كانت غاية الكاتب من رواية-المستنقع-هي ملامسة الراهن بكل تداعياته المتشعبة،أو بالأحرى تحليل عديد الأطروحات السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية من منظور نقدي محايد ونزيه،وقد نحا-المحسن بن هنية-"بمكره الأدبي المعهود "المنحى القائم على حسن استشراف المسالك المحايثة للعملية الإبداعيّة،حتّى يضمن للأثر المنشأ حسن التلقي وجودة التأتّي..
وهذه السياسة الأدبيّة تجعل القارئ عاديا أو غير عادي يسلس القياد ويذعن للنصّ وشروطه القرائية.ولكنّ أمر النصّ آخر..إنّه نصّ الكشف والإنكشاف في ذات الآن.فهو يخترق سجوف الصّمت وبعرّي المستور ويلج بجسارة المسكوت عنه،فتشيع نبرة تجريبية واقعيّة مميّزة في المتن السردي للرواية،تصف الواقع وتشخّص الرّاهن بأسلوب جسور لم يألفه الخطاب السائد، حيث تنبجس من- ضلوع-رئيس التحرير-كلمات رمادية موغلة في الألم ،وكأنّ الوجودية السارترية أو الكاموية قد بُعثت من مرقدها في شكل محليّ ضيّق ولكنه ذو أبعاد إنسانية شاملة:
هناك رهط كالطاحونة التي تطحن رؤوس البشر حتى أبناء عمومتهم أو تطحن حبّات القمح..الأمر عندهم سواء،المهم أرصدتهم في البنوك،النقود مغمّسة في الدّم،في الخل،في البترول،في الحرام،بالنشل،بالسرقةمقابل العرض،مقابل الشرف..القيم،المبادئ،الوطن،الشهامة..الذل..التمسّح..القوادة..المدح الرخيص..في الأخير هي نقود تشتري بها الذمم والضمائر.. ص:128
ولكن..
التستر خلف حجاب الكلمات لم يعد ينفع ،و الخطاب السياسي المتوهّج لم يعد يلهب حماس النّاس -في مثل ليل عربي كهذا-.فماذا يفعل الإنسان-العربي-الباحث عن وتد مستقرّ في زمن لم نعد نعرف فيه الطريق إلى الحكمة،وقد ارتجّت من تحته كلّ نقاط الإرتكاز.كيف يمكنه أن يتجاوز الألم والتشظي في عالم سريع الإنزياح والتغيّر..؟
..إنّ حضور الأسئلة الحارقة ،الأحلام المشتهاة،الإستيهامات والواقع بكل تشعباته يبرز قدرة الكاتب على الجمع بين كل هذا ضمن تشكيل لا يلاحظ فيه أي نوع من أنواع النشاز أو النتوء الفني،بل إنّ كل هذا يوضح،بقوّة،كيف نجح الكاتب في التوفيق الجيد بين الإتتقاء والتركيب في سبيل تقديم نص ذي حس إبداعي يشدّ القارئ من غير سقوط في حذلقات أوتنطعات فاقدة الماء والرواء..
وهذا ما جعل الرواية تتميّز بلحظات مكثفة وذات عمق تصويري آت من مناجاة أو حوار تتبدّى فيهما حالة الشخوص في بحث دائم عن الحرية التي هي أعز ما يطلب في فضاء وفي زمن كل ما فيهما لا يحيل إلاّ على الألم والحسرة،كما يبين ذلك التعبير التالي: وتيرة الأيّام أصبحت باهتة تتوالى في رتابة مضجرة كحشرجة المريض الذي أزمن مرضه ودبّ اليأس في برئه،...وتحت وطأة اشتداد الجفاف وذهاب الربيع دون زهور أو فراشات ودخول الصيف بوجه كالح ينفث من خياشيمه الهجير..(ص192)
على أنّ أهم ما نجحت فيه الرواية هو قدرتها،في الآن نفسه،على ملامسة الجرح الجماعي والألم العام حتى وهي تقوم على تفريد الأوعاء والحالات.فالرواية تملك عمقها وتميزها من كون الفردي لا يغيب حجم الكارثة الجماعية،وبذلك فهي لا تغرق في بكائية ذاتية مقطوعة الأواصر بالهم العام.
فرغم تقديمها حالات-شخوص،فهي تثير،في ثنايا ذلك،ودون السقوط في مستنقع الأطروحة الفجة،وضع أزمة جماعية ليست الحالات الفردية،مع أهميتها سوى التعبير الأفصح والفجائعي عنها.
ومن ثم،نجد،في الرواية،ذلك البحث أيضا عن البطولة في زمن العيش في مجتمعات صاخبة وزاخرة بالحركة والعلاقات التي أصبحت تقوم-في غالبها-على الزيف والقناع.
وكل هذا يبيّن أنّ الرواية قادرة على تقديم الصورة ضمن بعدها الإشكالي حيث لا مجال للحكم الواحد-الوحيد.فالكل قابل للمساءلة وإعادة النظر حتى ولو أوهم بالوضوح والسكينة.إذ لا مجال هنا للوثوقيّة والإنغلاق من منطلق أنّ"النصّ الأدبي ملتبس ومتعدّد المستويات ومتعدّد الدلالات وإرجاعه إلى دلالة واضحة وشفافة يقود إلى إلغائه كنصّ"(4).
النصّ الجمع:
استدعت الرواية نصوصا تراثية وأشكالا فنية متنوعة وتمكنت من صهرها بطريقة محكمة جعلتها تكوّن وحدة لانشاز فيها من غير أن تفقد هذه الأشكال تميزها فكأنّها"تتجاور وتتلامس وكأنّ بعضها يذوب في بعض.."(5) فإذا بالنصّ القرآني يتلاحم مع السرد:فالمقرئ يقرأ القرآن،والآيات تنساب انسيابا"إذا الشمس كورت.وإذا النجوم انكدرت.وإذا الجبال سيرت..."والنص التاريخي ينصهر في الوصف فإذا بالمسجد الأقصى ينتصب شامخا يوحي للقارئ بالآفّاقين أو جنود الإحتلال الإسرائيلي الذين يطوّقون هذا المكان المقدّس،ولهؤلاء المحتلين أخبار وحْده النّص التاريخي كفيل بضبطها فيقع استحضاره.وتنفتح الرواية على فن العمارة فتشاهد مساجد ومآذن وأزقة عتيقة،وتوظف فنون المسرح فيما يُعرف بخيال الظل،وتستدعي الفنون الشعبية فإذا بك في جو" الحضرة"والأعراس والأغاني الشعبية.
إنّ تمازج هذه النصوص والأشكال الفنية في النصّ الروائي الواحد يعطي التجارب الروائية الجديدة تميّزها وطرافتها ويبعد عنها شبح الرتابة ويخرجها من سلطة النص الواحد إلى رحابة النص الجمع مكمن النصّوص المتنوعة حدّ التناقض المتآلفة فيه حدّ الإنصهار.ولمَ لا تكون نموذجا للتعايش والتكامل في إطار التنوع والإختلاف في عالم قوامه الصراع والتنافر.
وإذن؟
تبدو لنا،إذا رواية"المستنقع" غير مكتفية بالإنفتاح على روائيتّها،تحاول الإغتناء بذاتها.ورغم أنّ الروائي قد طغى على الميتاروائي فإنّ هذه الرواية يمكن أن تدرج ضمن اتجاه من الروايات الحديثة يؤمن بإزدواجية الكتابة بإعتبارها موضوعا وتأمّلا في الموضوع،وهو اتجاه ينطلق من ادراك حاد بصعوبة الكتابة ومسؤوليتها،فثمة أسئلة عديدة تتعلّق بالإبداع وبماهية الكتابة ووظائفها ما زالت مطروحة في عصر تتهاوى فيه الأنساق وتطرح كل الثوابت..
في الختام قد لا أبالغ إذا قلت أنّ الرواية قد أبانت عن قدرة متميزة لدى كاتبها تكشف عن حذقه الكبير في بناء العوالم السردية رؤية وكتابة والإمساك بمختلف منعرجات الفن الروائي وتنوعاته مع صبر طويل في التعامل مع هذا الفن بما يستلزم من دراية وخبرة.
ومن ثمّ،نستطيع أن نلمح أنّ القراءة المستعادة لهذا-المنجز الإبداعي-لا يمكن إلاّ أن تحمل معها إضافات متجدّدة تكشف عن زخم النص وقدرته على إسثثارة الإعجاب المتلذّذ وإثارة الأسئلة المؤرقة والعذبة في ذات الآن.إنّ حرارة الكتابة وتقلبات الحكايات بين تفصيلات الواقع الدقيقة وشطحات الخيال والإستيهام التي تتلبس صورة هذا الواقع تلبسا ممعنا،تنتقل عدواه إلى القارئ دون مطبات فنية أو تشويش تقنوي مفروض.
وبذلك،تكشف الرواية عن غنى الإختيار السردي وعمق المسار الكتابي لدى بن هنية،لا في منجزه النصّي فحسب،بل كذلك،في محتمله الإبداعي الواعد،الشيء الذي يوضح أنّ الأمر لا يتعلّق بنزوة عابرة ولا بعشق للتقاليع،بل بإمتلاك الصوت تفرّدا وصدى..
*"الزهرة والخريف"(مجموعة قصصية)
اللعبة السردية عند المحسن بن هنية :
الراوي الذي يتحدّث إلينا في هذه القصص شخصية متخيلة، لا تكاد تختلف عن أي شخصية من الشخصيات المتخيلة التي تعرضها علينا القصة، الإختلاف الجوهري الوحيد أنّ حضور شخصية الراوي في قصة - المحسن بن هنية - حضور محوري، يتغلغل في دقائق النسيج الذي تتألّف منه القصة، ونستمع إلى صوته وملاحظاته عند كل منحى، إلى الحد الذي تصبح معه القصة وراويها المحدث أمرين متلازمين، لا وجود لأحدهما ولا معنى دون وجود الآخر .
ليس لكلمة "القارئ " أو "القراء" التي رأيناها كثيرا في كتابات -بعض الكبار -أمثال طه حسين أي ذكر على الإطلاق في قصص المحسن بن هنية،ومع ذلك فحضورنا - نحن القراء-حضور فادح في عالمه القصصي .
هناك خطاب ضمني موجه إلينا على الدوام، نستشعره في كل كلمة وكلّ جملة، ولا ندرك كنهه أو سرّه في القراءة العجلى، ولكننا سرعان ما نكتشف أنّه ليس مجرّد خطاب ضمني غامض، بل خطاب صريح له شواهده اللغوية التّي لا تخطئها العين، وأبرز هذه الشواهد ضمائر الخطاب التي تتخلّل بعض الجمل وضمائر جماعة المتكلمين التّي تضمّنا مع الرّاوي في صحبة واحدة وإزاء متعة ومسؤولية مشتركة .. صحيح أنّ الراوي في هذه القصص نادرا ما يكون شخصية رسمية من شخصيات القصة، يروي قصتها هي بضمير المتكلّم، أي أنه نادرا ما يكون راويا مشاركا في الحدث، لكنه أيضا لم يكن صورة من المؤلف المحسن بن هنية، إنه راو مراقب في الغالب، يشترك في بعض الأحداث بشكل طفيف، لكن دوره يتجاوز كثيرا دور المراقب التقليدي، لأنه أولا - يوجّه خطابه إلينا، ويهتم اهتماما بالغا، بإقناعنا وتشويقنا، ولأنه ثانيا - يشركنا بعمق وحرارة الرؤية والإكتشاف، فنصبح وكأنّنا نحن الذين رأينا واكتشفنا .
نحن والراوي شركاء في الرؤية والإكتشاف والراوي في قصته يبدو على نفس درجة الدهشة والتشوق التّي تعترينا. هذا التراوح بين وجود الراوي داخل القصة، الذي يقترب أحيانا من حضور المؤلف بشخصه على مسرح القصة، وبين وجوده خارج القصة يلعب دور المراقب .
وذلك التردد الذي ينتاب القارئ في إدراكه لحضور الراوي : بين المرور النائم الغافل عن صوت الراوي المحدث، والمستغرق في حرارة القصة المشوقة من ناحية، وبين الإدراك الفادح للشواهد اللغوية الدالة على حضوره من ناحية أخرى - هذا التراوح و ذلك التردد هما سرّ اللعبة السردية عند المحسن بن هنية..
لعبة "الحديث" المركبة هذه،هي جوهر السرد عند هذا القاص،والعنصر التكويني المطرد في كل ابداعاته تقريبا،خاصة قصصه القصيرة،على اختلاف تنويعاتها،لكن ما ميّز قصص هذه المجموعة، ليس الحبكة الكلاسيكية المعروفة،ولا نوعية الحوادث والشخوص التّي يختارها،ولا نوعية اللغة التّي يستخدمها فحسب، بل إنّ ما ميّز هذه القصص قبل هذا وكله وفوق هذا وكله،هو صوت الرّاوي المحدث، قد تختلف أبنية هذه القصص : من الأحداث المختزلة،إلى الحكايات الإستطرادية المطولة،إلى نموذج القصص التحليلي،إلى نموذج القصص الشيكوفية ذات النهاية المفاجئة والمريرة في سخريتها.. إلخ.ليس لهذه القصص شكل واحد،أو حبكة وحيدة تخضع لنموذج مسبق، فالنموذج الوحيد الذي تخضع له كلّ هذه القصص تقريبا هو طريقة الحكي المخصوصة هذه،وما قد ينتج عنها من بنية واختيار خاص لنوعية الحوادث والشخوص واللغة .
لقد تناول المحسن بن هنية في هذه المجموعة موضوعات متباينة، وبيئات متتعددة وشخوصا من مستويات طبقية ومراحل عمرية متنوّعة (المعدم -السائحة الأجنبية - الكهل -التاجر- الجندي المقاتل.. إلخ) لكنك حين تقرأ هذه القصص المتنوعة تشعر أنك إزاء رواية كبيرة متعددة الفصول، أو ملحمة متعددة الحلقات، يقف على رأسها هذا الرّاوي المتحدّث بطريقته المخصوصة في الحكي.
من المؤكد أنّ الرّاوي عموما، أوالوسيط الذي ينقل الحكاية إلى القارئ،أمر بالغ الأهمية في كل سرد، بل إنه سمة نوعية تميّز السرد عن غيره من أنواع الأدب،هذا ما يؤكده شتانزيل،الذي يؤكد ايضا أنّ كلّ ابتكار في فن السرد عبر التاريخ،وأنّ كلّ الروايات الكبرى- من ترسترام شاندي إلى يوليسيز .. إلخ، قد أولت عناية خاصة لهذا الوسيط الناقل للحكاية . وركزت كل ابتكارها فيه .
غير أن لكل كاتب طريقته في العناية بالراوي أو الناقل أو الوسيط. وليست مسألة الراوي مجرّد مسألة من مسائل الشكل يعنى بها النقاد الشكليون أو علماء السرد،بل هي عنصر من أهم عناصر السرد الحاملة للمعنى بذاتها،إنّها العنصر المرن المراوغ الذي يقف على الحدود بين العالم الأدبي المتخيل داخل القصة، والعالم السياسي الإجتماعي الثقافي خارج القصة.
على سبيل الخاتمة:
وقفت بنا النصوص أمام تحليل لأعماق الأشخاص وكشف لرقيق مشاعرهم وتوغل في ثنايا واقع ملتبس برؤية منهجية واعية.في النصوص كذلك تركيز على الزمن النفسي وتوظيف لتيار الوعي بتداخل الإسترجاع بالإستحضار مع توهج مثير لأسئلة عبر حوارات ذاتية وشخصيات مركبة تؤدي-في بعض الأحيان-أدورا غير عادية،ساعدت على إدهاش المتلقي،للوصول به إلى نهايات النصوص المفتوحة التي تطل على تأويلات غير محددة.ومن هنا حمل-المحسن بن هنية-على الذائقة الفنيّة التقليديّة دون هوادة وأرسى دعائم مشروع تحديثيّ في الكتابة بكلّ أبعاده ومستوياته.
يمكننا القول أخيرا:إنّ الأدب ليس قول ما يرد على شاشة الذاكرة وتنبض به دقّات القلب،ليس مجرّد تلاعب بمفردات وشخصيات يحركّها الكاتب،إنّها كل ذلك معجونا برؤية خاصة ثاقبة،وذوق سام،وبأسلوب لا يشير إلا إلى صاحبه،في تلاحم خلاّق بين الإحساس والإدراك لمجمل مفاصل العملية الإبداعية التي تجسّد نبض الحياة وهذا ما تمكّن منه المبدع"المحسن بن هنية"بتميّز واضح..
ولنا عودة إلى منجزاته الروائية المتعددة في مقاربات أخرى..
محمد المحسن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق