قراءة في نص للدكتورة: فوزية ضيف الله
Faouzia Dhifalah
بقلم الأستاذ: حاتم بوبكر (استاذ فلسفة، رواني شاعر)
النص:
تقشر نصي من لحمي...
قشرته كما اقشر سمكة...
كان يرقص على موسيقى الألم الحاره
تقشر عني...ولكنه سكن لحمي وعظمي...
زعانفي تطرده...و احداقي ترقبه...
كان نصي يأبى أن يرحل عني
التصق بي..
كان يراني حورية البحر الجميلة...
ولكني كنت. اراه تحتي يخرج من لحمي
كالدماء...
واطرده ليغتسل من اثم الكتابة الخانق...
كنت اريد له حياة اخرى خارج شوكي
وخارج لحمي وعظمي...
أما راسي فكان يفكر في انجاب نصوص أخرى...
د.فوزية ضيف الله. تونس
القراءة:
تزدحم الأسئلة تستنفر سكوني وكلما وطئت سطرا إلا وإزاد ارتباكي وتوتري فأراه لا يفتأ عن التصاعد حدّ نتوء الاضطراب على وجه قلمي. انبجست الأسئلة بذهني وبلغت حدّها القصي وأنا أصطدم ببارادوكس شطره في السطر الأول وشطره الثاني في السطر الأخير إذ تعلن الفنانة الفيلسوفة في بداية نثريتها ان نصها تقشّر من لحمها حتى ظننت أنها نيتشوية بدمها، بلحمها، بقواها الفعالة تكتب وقد نهرت العقل الصنم غير أنها تؤكد في السطر الأخير بقولها "أما رأسي فكان يفكر في انجاب نصوص أخرى" أن العقل مصدر نصها فهل تنكرت لنيتشة وارتدت الكوجيتو الديكارتي؟ بأي منهما كتبت نصها أم أن نصها نتاج وحدتها؟ حينها من أكون أنا؟
ضمنيا تؤكد الدكتورة ان النص الشعري يمكن ان يكون حاملا للفلسفة وللتساؤلات المتعلقة بالذات وبالذات في علاقتها بما عُدّ غيرية (الجسد).
أعود إلى النص الشعري المضمخ باللحم ، بالجسد هذا الذي يجذرني في واقعي ويصلني بالغير وبالعالم وهنا يتحول الجسد إلى كتاب كبير منه تتقشّر النصوص وتتوالد وهذا تأكيد لجسدانيته وقيمته ، إنه أصل النص وقوام الأنا ومولد الحياة وسعادتها وامتلائها، هو اقبال لا يعرف الادبار واندفاعات منفلتة وهو خزان الهمس والهسيس والتذوق. هذا النص المولود من الكتاب رقص في الجسد وانتشى مثلما يرقص الجنين في بطن أمه وٱشبع بآلام المخاض وعناء المعنى والمغنى والإحساس ووعثاء التجربة الداخلية، نص تقشّر من اللحم، أخذ في قشوره من زمنية الشاعرة والشيء الكثير من حديقتها السرية بل وكان خير ترجمة لموسيقى الصراعات والاستبطانات والانفعالات والاحساسات الجوانية ليتماهى النص وجسدها الخاص... لعمري إن الشعر لقادر على حمل الفلسفة وقضاياها وعلى بلورة الفكر في حلة شعرية تثير لذة الشاعر والفيلسوف.
هذا المنتج الفني الذي أجازف بقراءته أثر من الجسد خرج منه واستوطن فيه، هو تعبيرة من تعبيرات الجسد الباطنية المنكشفة ليكون الشعر كشف وافصاح عن الكيان المتجسد وكيف لا وهو موطنه، وهو نتاج مخاضه . نص تطرده زعانفها أو أطرافها الشفتين واللسان واليدين والأصابع تطالب بترجمه وربما كذلك تهيجات الجسد ولكنه مراقب بأحداقها أو ببصيرتها وعقلها. النص ليس نتاج العفوية بل نتاج تخمر العقل والجسد، هو فعل اختمار أو نتاج الاختمار بين ابعاد الذات الروحية والمادية، انه يتخمر في عمق الذات، في أعماق أعماق الجسد ولا يلد أو يخرج إلى الوجود إلا عبر متابعة منطقية وعقلية تتكفل بها البصيرة أو العقل.
"كان يراني حورية البحر" وهي تراه" أراه تحتي يخرج من لحمي" فعل رأى هنا لا يحمل على معنى مباشر وإنما على معنى ضمني نُحال فيه إلى التفكّر والتدبر بما هي فعالية عقلية متقصّدة يلتقي فيها العقلي بالجسدي، الروحي بالعضوي واللوغوس بالايروس فيمّحي الخط الفاصل بينها وندرك الوصل فتُحل معضلة البارادوكس الظاهري ويتحقق التناغم وفي هذا اعلان أن أصل العمل الفني ليس الفكر المنغلق على ذاته ولا الجسد بما هو موطن الدوافع الغريزية وليس العالم الخارجي بل الأنا المركبة من الروح/ العقل والجسد .
تعرّج فيما بعد على فعالية الكتابة، كتابة تتحول في نظرها إلى اثم وهي ليست كذلك، هو اثم خانق لشدة المخاض العسير والولادة القاسية . الكتابة شبه الخطيئة الخانقة وربما تشويه للنص وخنق لما يعتمل في الذات ببعديها ولا يتطهر النص من هذا الاثم إلا عندما يكتمل ويتشكل حينها يبلغ كمالاته و يتشكل بعده الاستيطيقي بفضل فعالية التطهّر . فهل يعني هذا أن العمل الفني يخضع إلى عمل نقدي واع؟ ذاك ما بدا لي، انه لا يبعث إلى الوجود إلا إذا اغتسل وتطهر ولبس حلة جميلة زادته جمالا. لن أجازف إن قلت أن الشاعرة هنا تعمل على ضبط المعايير الذوقية للأثر الفني وهو الذاتية ذاتها كما تعلن أنه ليس كل انتاج هو فني بالضرورة بل فقط ذلك الذي ينبع من الأنا وقد تولّد عن توافق النفسي والجسدي وخضع إلى مراجعات تطهيرية أو إلى نقد ذاتي، هذا هو العمل الذي يجب ان نتوجه به إلى غيرنا، هو الذي يستأهل التقدير، هو العمل الحق الذي يخاطب الغير في بعديه العقلي والجسدي لا فقط الجسدي الناس بما هو السمة الطاغية والمحددة للفن السائد . مؤصلة ناقدة ، فنان/ فيلسوف يبلور أطروحة تتزاوج فيها الفلسفة بفن الشعر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق