الغرفة 127
.........
كان الطبيب في غرفة العمليات بمصحةتحمل اسم آميلكار في حي النصر يحفر في جسدي الثقب ليمرر المنظار الأليكتروني وآلة لنفخ الهواء.وجهازإستئصال ما يزعج داخل البطن ..
لما إنشق الجدار من جهة زاوية مقابلة للدكتور الجراح وظهرت السماء وفي وسطها برزخ مضيء أطلت منه زوجتي نورة بثوب أبيض ملائكي جذاب
..كيف وصلت الى هنا !؟ من أخبرها بمرضي وأنا الذي أخفى مرضه إلا عن أبنائه وأصدقاء لا أحد منهم كان يعرفها مباشرة
وتساءلت : هل تفطن الطبيب الجراح الى انفلاق زاوية الغرفة وانبجاس نور لم يتعود عليه أحد ...
وهل رأى الطبيب نورة التي كانت تتأمل حركة
يديه ..وهي لا تنظر الي إطلاقا ...
فهل كانت غاضبة مني لأني لم أعلمها بمرضي
ولا أعلمتها بموعد إجراء عملية جراحية صغيرة كنت أعتبرها عادية جدا لاستئصال شيئ من اللحم من داخلي ليتولى أحد المخابر تشريحها والبحث فيها للتعرف على أسباب الأوجاع التي تمكنت بي عدة أسابيع ...فأنا متعود على أن أحدثها في كل زياراتي لها أمام قبرها عندما أعود الى قليبية
ثم .. !!!!
كيف أسأل كل تلك الأسئلة وكأني واع بما يجري ...ألست مبنجا الآن تمامافمن المفروض
أني لا أحس بشيئ ولا أرى شيئاولا أسمع أي شيء ..وإلا ما كنت سأتحمل إطلاقا أجهزة الثقب في بطني ..
ماذايحدث لي..
يا إلهي ؟
هل جننت ؟!
أم أن قصة مرضي لا وجود لها ..ولست في قاعةالعمليات ولم أقابل طبيبا.ولا أنا موجوع . وكل ما في الأمر أني أحلم..وحلمي أتاني تلبية لرغبتي الملحة في رؤية نورة ..
لكن هاهي نورة تخرج لي في الحلم فلا تنظر الي ولا تكلمني ..إنما كانت تتابع بعينيها الجميلتين الحائرتين ما يفعله في سعادة الدكتور ..فقد كنت أشهد على شفتيها المتعودتين على الإبتسام بعض أسئلة
قالت :
دكتور ..أنا لم آت من عالمي الخاص بجنان عدن لأحمله معي .
أبدا فلن أجعله يتبع خطاي كما قال في بعض قصائده التي بلغتني وأحببتها لكني لم أتبعه في رغبته فمازالت لديه الكثير مما يمكن أن ينجزه في حياته ...ومازال لم يقترف ذنوبا جميلة كان يحبها ويرددها مباشرة من قصيدةللشاعرمحمد الغزي القيرواني ...
..ويصر على التمتع بذنوبه فلا يتضرر منها أحد بل ترفع من قيمته لدى الناس..وتسعدهم
...أعرف أن أخطاءه كثيرة ومنها عدم العناية بصحته
..فقد أصيب بجلطة قلبية إثر رحيلي عنه فلم يتحمل غيابي..فأنا أعرف جيدا أنه يحبني ولا يقدر على فراقي وأجريت عليه عملية دقيقة جدا بعد إكتشف الطبيب أن شرايين القلب منسدة تماما فقام بترميمها بثلاثة جسور
..وبعد سنة أجريت عليه عملية جراحية على أعصاب الظهر الذي كان يرفض أن يريحه ويستريح فقد ألزام نفسه بما لا يلزم من إهتمام بالثقافة وبالأدب دون أن يقبض من عالمه الثقافي مليما واحدا ..فهو يميز جيدا بين عمله الذي يعيش منه..والنشاط الثقافي الذي إختاره عن طواعية من أجل الآخرين مع التركيز على كل من يحتاج الى المساعدة بحثا عن التألق والنجاح ....
يا دكتور ... إعمل كل ما في وسعك للمساهمة في شفائه ..فأنا سأحبه أكثر من دائرة الملائكة التي أنتمي إليها هناك .. لقد إنسحبت من حياته مبكرا ..لأن الله أرادني أن أكون في مواكب الملائكة ..فنحن نريد ولكن الله يفعل ما يشاء .وأنا اليوم جئت أحرصه ..وأتمتع برؤياه لكن الله إذا أراده فلا راد له ..وكل ما تعيشون به في الحياة الدنيا ليس الا أمنيات ورغبات
....يا إلهي كيف تأتي إلي نورة وسط برزخ من ضوء ملأ الدنيا جمالا وبهاء ...من عالم الأنوار الربانية العالية
ولا تكلمني . فهي تكلم الطبيب فقط..؟!
لكني أتراجع في الأسئلة لأني فهمت أخيرا أنها كانت تعرف أني لا أسمع ولا أرى ..لأنني مخدر وقد كنت أتحاور مع الطبيب المختص في التبنيج الذي يقف الآن الى جانب الطبيب الجراح وبينهما حوار صامت ..ومنذ أن سألني عن عملي في فترة تقاعدي بدأت أتلعثم ولم أجب بحرف وغبت عن الوجود
..وكان السؤال طبعا مدروسا حتى يتأكد أن المخدر أخذ في مأخذه فيعلم الطبيب الذي يكون في حاجة الى اشارة للانطلاق...
و مع ذلك أعود لأسأل فالمحيط الذي وجدت نفسي فيه الآن أمره محير . فهل أن الطبيب كان يسمعها وهي تكلمه
عني ..وهل كان يراها
..أوه ...... كيف له أن يراها وهو منهمك في عمله بإتقان ولم يشهد لحظةإنشقاق الجدار
وظهور السماء
..ودخول نورة أجواء الحياة ..وقد كانت تلبس أجمل ثوب رأيته في حياتي وأشده بياضا
..كم تمنينت أن تنزل إلي لألمسها كما كنت أفعل بحب كبير ولأتحسس تلك الروح التي تخرجها من الجسد الى كيان يسبح في الأكوان...
كانت مشرقةرغم تلك الحيرةالبادية على محياها ..لا شك أنها تعرف ما أشكو منه ..
وأنهى الطبيب الجراح عمله ..وشكر جماعته وغادر غرفة العمليات
بسرعة فقد يمون مطلوبا لعملية أخرى
..وأحاط بي مساعدوه من الممرضين والتقنيين كل ألسنتهم كانت تلهج بالأماني لي بالصحة الجميلة والتوفيق مع الأماني بأن تكون نتيجة التحاليل المخبرية سليمة وأخبارها سعيدة
..
لم أكن أرد عليهم لأني كنت أسمعهم وقد بدأ مفعول المخدر يزول
..ونقلني الجماعة الى غرفة مجاورة في انتظار أن أعود الى نفسي تماما مع الرقابة الدقيقة ..
ونظرت الى السقف بسبب حركة أحسست بها . واذا بالملاك يسبح في الهواءفوقي مباشرة كانت مثل السمكة
..فشعرت بسعادة عارمة من المؤكد أن المرض لو كان متمكنا مني سينقلع من مكانه نهائيا ...
قلت لها ..
يا ملاكي ..أنا....
وقاطعتني الممرضة :
إن شاء الله لاباس ..هل تحس بشيء . أنا هنا لخدمتك ..الطبيب متفائل .....
رغم لطفها . وأمانيها الرائعة إلا أني لم أعرها إهتماما ..
كنت أريد أن أحدث نورة عن البيت وعن الأبناء وعن الحفيدات ..
لكني لم أفعل لأني أحسست أنها تتابع أخباري . وتحس بي عن بعد
رنوت إليها من جديد فلم أشهد الملاك السمكة ولم أعرف كيف خرجت
.. أكيد أنها خرجت مني ...عندئذ تقدم مني ممرضان ..وبدآ في سحب الفراش النقال الى الغرفة 127 ..حيث كانت إبنتاي تنتظران عودتي لإعلامي بأن الطبيب الجراح مر بهما
..وطمأنهما على صحتي
.....ووقع على وثيقة خروجي من المصحة
تونس ..حي النصر المنزه التاسع ..24 ماي 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق