الاثنين، 13 يونيو 2022

*أعطني نايا... * رحلة الأستاذ رشيد بن جوهرة بقلم الأديبة سونيا عبد اللطيف

 *أعطني نايا... *

بتلك الجملة بدأت رحلته الفنية مع الناي، وكان عمره لا يزيد عن السبع سنوات...
اول مرة شاهدته يعزف على آلة الناي كان ذلك في شهر ديسمبر 2019 إذا لم تخنّي الذاكرة في خيمة الحبيب بورقيبة تونس مدينة الآداب تظاهرة الكتاب.. استهواني عزفه... لكن لم يقع بيني وبينه مصافحة ولا تعارف..
المرة الثانية ، شاهدته يدخل فضاء السليمانية الثقافية يوم السبت 05\06\ 2021 وفوق كتفه حافظة مجموعة آلة الناي... لما أعطيت لي مسؤولية تنشيط الجلسة بمعية الشاعر سوف عبيد والشاعرة مفيدة السياري بمناسبة اسبوع الشيخ جراح وتحت عنوان *نكتب لفلسطين* بتنسيق من جمعية ابن عرفة الثقافية والسليمانية الثقافية.. ارتأيت ان خير ما أستفتح به أمسيتنا الشعرية هو العزف والموسيقى.. ودون تردد سألت عن اسمه واستأذنته ليعزف لنا بعض المقطوعات الموسيقية بآلة الناي... لم أكتف بتدخل واحد منه فكيف أملّ وكيف نملّ من رنين الناي وسحره وأنينه...إذ جعلت العازف المبدع بن جوهرة يطربنا بتنهيدات الناي في خلال سير الأمسية، الوسط والختام... وكانت تلك بداية صداقتي معه...
عازف الناي المبدع المتألق حبيب المثقفين، صديق الوسط الثقافي التونسي خاصة العاصمة... رشيد بن جوهرة هو من مواليد 1965 من مدينة سبيطلة التي زاول فيها تعليمه الابتدائي والثانوي وحيث نشأ وشبّ وترعرع... في أسرة متحابة، متماسكة...
التقيته في هذا الموسم العديد من المرات.. وقد رافقني مشكورا ، متطوعا يوم الثلاثاء 19 افريل 2022 في سهرة رمضانية شعرية بنادي الطاهر الحداد الثقافي وفي الوقت ذاته بلّغني تحية واعتذار صديقنا الشاعر المميز عزيز وسلاتي في الحضور بسبب ظرف طارئ..
ويوم الأربعاء 15\06\2022 التقيت الفنان البهي عازف الناي رشيد بن جوهرة بفضاء ابن خلدون الثقافي... كنت أنتظر متى يؤذن له بالعزف بشوق كبير وفجأة تفطن لذلك منشط الجلسة فطلب منه وصلة موسيقية من نايه صديق العمر فأول ناس حصل عليه كان عمره سبع سنوات وهو الآن مازال بحوزته...وعمره خمسين سنة...ومازال يحافظ على بريقه وسلامته بفضل عناية بن جوهرة به...
تناول نايه من بين مجموعة في حوزته حاولت عدها في الحافظة هي غكثر من عشرة...وبدأ العزف.. تابعته بشغف واهتمام وعشت غجمل اللحظات مع تلك الألحان الشجية فقد رافقت أنين ذلك الناي الحزين إلى لا أدري... لقد رفعني إلى عوالم صوفية، حلقت بي روحي بعيدا... وترقرقت دمعات من عينيّ... سرعان ما حبستها وجففت ما ظهر... دون أن يتفطن لي أحد من الحاضرين...
إثر اللقاء، سحبته إلى مقهى، ليحدثني عن رحلته مع الناي.. كيف كانت بدايته ؟ولمن يعود الفضل في ذلك... ؟ وهل يوجد في عائلته من له ميولات فنية أو تأثّر به...؟
قال رشيد بن جوهرة يحدثني أنه كان مولعا بمتابعة الحفلات الموسيقية التي تنظم في مدينته سبيطلة كان يحضرها ليتفرج ويستمتع...وكانت له في الأقارب ابنة عمته نادية الجريدي فنانة وتغني مع فرقة مدينة سبيطلة... وكان ينصت إليها وهي تغني في الحفلات الخاصة والعامة ..فأحبّ الفن وأهل الفن.. وظل يرافقهم أين يحطّون...أما عن بداية غرامه بالعزف على الناي فيرجع سببه إلى التأثر بجارهم العم طاهر...
العم طاهر كان عازف ناي محترف وينتمي إلى فرقة سبيطلة الوترية وكانت الفرقة تشارك في المهرجانات في الاحتفالات التي كانت شبيهة بالاعراس خاصة مناسبة عيد ميلاد الحبيب بورقيبة كل شهر اوت فصل (الصيف )...
كان رشيد يتابع حركات العم طاهر بحب كبير، والعم طاهر يعتبر النواة الأولى في ولاية القصرين بالفرقة التي كان يقودها اللافي الخشناوي.. ويأتي في مرتبة ثانية عازف العود مولدي قنعويل.. ثم صالح المهدي الذي كان هو أيضا يصاحبهم في الفرقة ويرافقهم في العروض والمشاركات...
*أعطني نايا... * هكذا خاطب رشيد بن جوهرة جارهم عم الطاهر ذات يوم بكل جرأة وشجاعة وأدب واحترام... وقد قصده خصيصا حيث كان يجلس ويبرّف في الحيّ...
تلك الجملة العفوية البريئة كانت فاتحة خير وبداية فتح الآفاق والباب لهذه الهواية،
لم يقل له عم الطاهر لا إنما رافقه إلى بيته وسلّمه نايا وهو يسأله: ماذا ستفعل به...؟
أجاب رشيد بن جوهرة بلطف: أريد أن أجرّب العزف على النّاي.
تسلم رشيد الناي وقفز إلى بيتهم يجرب.. وظلّ في محاولاته..
وصادف أن سمعه استاذ الموسيقى صلاح المانع وهو استاذ موسيقى وابن الراشدية ومدرّسا في المعهد العالي للموسيقى. فناداه وجعل يدربه في الحيّ على استعمال الناي ومسكه
وكيفية العزف عليه، درسه المقامات ودرجة الارتكاز ووضّح له السلم الموسيقي...
بدأ رشيد بن جوهرة تكوّينه الفني عصاميا، وتتلمذ في البداية على يد عازف ناي أيضا عصامي...
إثر ذلك توجّه الى الأستاذ اللافي خشناوي... وهو استاذ جامعي ، أكاديمي، ثم واصل مع الاستاذ كمال ريي الذي له فضل في تكوين كل موسيقيي الجهة من سبيطلة والقصرين ، وما جاورها... وكان تأسيس تلك الفرقة في سبيطلة سنة 1962 وقد انضمّ إلى الفرقة الفنان المولدي وهو عازف ناي ثم تخصص بعد ذلك في آلة العود وكان ذلك في فترة ظهور مهرجان العبادلة في سبيطلة ، ..
سنة 2019 ، انتقل رشيد بن جوهرة إلى العاصمة تونس ليدرس الموسيقى والتخصص في آلة الناي بصفة رسمية فتكون على يد صلاح المانع وفوزي الغربي وكان ذلك في مقر نادي الحوارات لمنى تقية الذي كانت بدايته فضاء السليمانية الثقافية ثم انتقل الى المنار..وللنادي إشعاع كبير إذ يشارك في المهرجانات بالتعاون مع بعض السفارات..
*أعطني نايا...*
هي الجملة التي قالها رشيد بن جوهرة للعم طاهر ببراءة الأطفال... *ماذا ستفعل به؟* كان سؤال الرجل اللطيف الحنون الكريم الذي احترم رغبة طفل فلم يبخسه ولم ينهره.... * أريد أن أعزف.. * إجابة الطفل رشيد ببساطة وتلقائية الطفل الصغير المشحون رغبة وطاقة وحب اطلاع.. وكان القبول من العم طاهر.. أولا لأنه أراد أن يسعد طفلا بدا له مولعا، ثانيا جريئا وشجاعا.. ثالثا لان عم طاهر من يصنع الناي بيديه فهو آلة غير مكلفة ولا معقدة ... وحسب كلام بن جوهرة هذا من الأسباب التي جعلته يحب الناي ويعشق ذلك الرجل العظيم إلى حدّ الانبهار.. فقد شده الناي رغم أنه مجرد قصبة هوائية، وأسره بألحانه الشجية.. وكان الجميع في تلك السنوات يلتقون في الحي أو في مقهى وسط المدينة للتجريب والتدريب... وبرغم أن بن جوهرة أصبح عازف ناي محترف... هو يصرّ أنه سيبقى عاشقا وهاويا وسيبقى صديق الشعراء ورفيقهم... فهو إلى جانب عزفه لمقطوعات موسيقية متنوعة.. يرتجل أثناء القراءات الشعرية حين تستجيب اذنه لما تسمعه من كلمات... فيرافقها بالأنّات والتّنهيدات والمولات التي تصدر عن نايه ...
الناي..القصبة .. الشبّابة... يختلف في الطول والحجم والسُّمك والقطر...
يقول بن جوهرة توجد 16 نوع ناي أو قطعة في المجموعة وما يزيد .. بحسب درجة الارتكاز ...
بكل ناي تسعة عقل.... وسبعة ثقب ويعتبر الثامن الخزنة..
انواع الة الناي حسب السلم الموسيقي هي:
اولا الرصد دو do
ثانيا دكاه بياتي على ري Ré
ثالثا بوسلك فرع من مقام النهاوندي على مي درجة Mi
رابعا درجة فا جهركه على fa
خامسا مقام نوى ..صول Sol
سادسا مقام حسين على درجة لا .là
سابعا مقام ماهور على درجة سي Si
ثمانية مقام عجم سي منخفضة Si
تاسعا عُشيران قرار Si/b2//la
عشره مقام حصار fa #
هكذا كانت جلستي مع عازف الناي الإنسان الراقي الرجل الطيب رشيد بن جوهرة ... هكذا بدا لي منذ أول لقاء رأيته.. هادئ الطبع، قليل الكلام، بل كثير سكب الأوجاع حين ينفخ في الناي، فتنطلق الألحان على غاية من التناغم والانسجام.. شبيهة برقرقة المياه، وبحفيف الأوراق ، كشدو حسون، غو بلبل وتغريد حمام..وقد يشبه طنين نحلة، أصوات متنوعة بل ألحان وانغام ناعمة ..رقيقة .. تدغدغ الحواس تعانق الأرواح تعيش الأحلام.. من خلال تلك الأشجان التي تصدر عن قصبة بسيطة تدعى آلة الناي... فمن دقق السمع في ألحان الناي يجد نفسه يسافر إلى الطببعة، فيلامس جمالها، ويرتوي منها ... ويتجدد شعوره ويعود له أمله وحبه ورغبته في الحياة...
فالناي هو أصل موسيقى الحياة وفلسفة أنغام الطبيعة ...
بهكذا أختم مقالتي عن الفنان المميز المحترف برغم إصراره عل عبارة هاو... لأنه لم يكتف بالتمتع بعزف الآخرين والإعجاب بهم والسماع لالحانهم...بل أراد غن يكون فاعلا ومبتكرا.. وسببا في إتحاف وإسعاد الناس بما تجود حنجرته وقصبته من ألحان... تحاكي الطبيعة واقربها إلى روح الإنسان.. وهو عمل بالمثل الشهير *تعطني سمكا بل علمني كيف اصطاد .. *
ولا تقل للمغني *غنّ...*
بن ٦جوهرة قالها وهو طفل: * أعطوني نايا .. أعزف لكم ألحانا.. وأشنّف لكم الأذان*
وها هو يحق؟ق أمنيته، يعزف بكل الألوان... والأشكال..
ويشدّ اليه كل الأجناس... وكلّ الأذواق....
سونيا عبد اللطيف
تونس 13/ 06 /2022
.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق