رواية في السيرة الذاتية للكاتب عبد القادر بن الحاج نصر
"حديقة اللوكسمبور "
........
لا يمكن أن ترى عنوانا لرواية تونسية مثل "حديقة اللوكسمبورغ"
دون أن يلفتك.فهذه الحديقة الباريسية الشهيرة لا يمكن أن لا تبعث على السؤال لدى كل الذين يحبون باريس..أو على الأقل لدى كل الذين يعرفون باريس جيدا ..والسؤال هو : ما علاقة الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر صاحب الرواية بهذه الحديقة الجميلة ذات التاريخ العريق والتي تعلق بها كل الذين زاروها مرة أو مرات ..اعجبوا بها فاصبحت ملجأهم للراحة والتامل في الحياة والجمال ..وتذكر عظماء فرنسا الذين كتبوا عنها حبا فيها او لان قصة حبهم نشأت هناك وهل هناك حب اعظم من الحب الذي ينشأ في حديقة اللوكسمبور فاسالوا الشاعر الكبير لامرتين ..ويمكن ان نسال حتى جول بولساتر فكم مرة أمها ومرت من قلمه بشكل او بآخر ..وكذلك الشاعر أراغون عاشق الزا ..
عبد القادر بن الحاج نصر إذن أخرج لنا رواية جديدة بهذا الاسم ..قص علينا فيها مرحلة أساسية من حياته رغم قصرها فهي لم تتجاوز الثماني سنوات لكنها هي التي غيرت حياته تماما ونقلته من وضع ما كان ليرتضيه الى وضع أسعده وأخرجه من ضيق ذات اليد مع محدودية المستوى العلمي الى حياة مترفهة نسبيا مع شهائد عليا وآفاق علمية عالية معرفة ثقافية وأدبية شاهقة ومناصب عالية ومرتبة اجتماعية متميزة
..فقد سافر الى باريس
بعد أن تجاوز الثالثة والعشرين من العمر لتعويض ما افلت منه بلا بكالوريا وهو مقر العزم على مواصلة تعليمه ونيل ما يطمح إليه لإحداث تغيير كبير في حياته .
إذن أقحمنا عبد القادر بن الحاج نصر من جديد في خانة كتابة السيرة الذاتية روائيا وليس كتابة الذات تقريريا فالنص الذي بين أيدينا رواية متكاملة ذات لغة جميلة راقية
.وأبعاد درامية عميقة وروح انسانية متميزة
مع الانفتاح على عوالم لا يعرفها كل الذين لا يعرفون بعض تفاصيل ضافية من حياته بالإضافة الى التعرف على عوالم مهمة من فرنسا عامة و باريس خاصة بوصف فيه دقة دون أن يكون ما قدمه روبرتاجا صحفيا وايضا دون أن يكون اعلاميا استقصائيا يبحث عن خلفيات مشاكل باريس ومتاعب سكانها ودون أن يتوقف على تحليل الأسباب العميقة سياسيا واقتصادية وحضاريا لوجود الآلاف من السكان الغرباء عنها من الوافدين للدراسة بكل أنواعها في واحدة هي من أعظم جامعات العالم ألا وهي جامعة السربون أو هم وافدون للعمل والتجارة وهي أيضا ملجأ بعض الذين يناضلون سياسيا بشيء من الصدق باحثين عن الحرية والديمقراطية أو هم من الذين يتظاهرون بالنضال ليكون أسلوبهم في تحقيق مصالحهم فهربوا من بلدانهم خوفا من أنظمتهم التي عادة ما تكون إستبدادية وقمعية بما يجعلهم يحصلون على اللجوء السياسي والبداية تكون بالتمتع بما توفره لهم المنظمات الدولية من خدمات ومنح
لم يكن كاتبنا تسجيليا فهو يمر على هذه المسألة دون التعمق فيها فما يعنيه هو أن يكتب ذاته روائيا وقد توفق في ذلك فكانت حديقة اللوكسمبورغ
رواية جميلة ..وذلك ليس غريبا منه وهو الذي يمسك بناصية الرواية.. إذ بهذه الرواية يكون قد نشر 18 رواية فقد نشر روايته الأولى عام 1969 نال عنها جائزة أدبية وكان قد بدأ حياته بكتابة القصة القصيرة وملأ الساحة باسمه في النصف الثاني من الستينيات
و جمع قصصه الأولى في كتاب إسمه "صلعاء يا حبيبتي "وهو عنوان طريف وصادم جلب الانتباه لا فقط لطرافته إنما لأهمية القصص التي أطلقت في الأفق الأدبية التونسية إسم هذا الكاتب الذي لم ينل بعد الباكالوريا رغم تجاوزه العشرين بأربع سنوات ذلك أن مسيرته في التعليم الثانوي لم تكن عادية اذ تعثر فيها بسبب مرض ألم به طويلا وأدخله مستشفى أريانة حيث كان تحت رقابة طبيب هو من أفضل أطباء تونس الراحل العظيم الدكتور ابراهيم الغربي الذي تفطن الى موهبة هذا الفتى اليافع "ابن الحاج نصر" في الكتابة فأمر بمساعدته على القراءة والمطالعة و الكتابة أثناء إقامته للعلاج الذي شغل مدة طويلة بما عطل نيله شهادة الباكالوريا
كان كاتبنا الكبير واعيا بهذا النقص في تكوينه
فرغم أنه بدأ ينحت اسمه في الساحة الثقافية ..ورغم أنه بدأ يعمل مذيعا بالاذاعة التونسية وعمر شارع الحرية بحضوره البارز وأصدقائه وصديقاته فإنه كان واعيا بأن موهبة الكتابة الأدبية لا تكفي لتحقيق ذاته التي يطمح اليها و كان متأكدا أن العمل في الاعلام بلا شهائد لا يمكن أن يذهب به بعيدا لذا قرر مواصلة تعليمه ونيل شهائد جامعية والحصول على معرفة واسعة ..فكان الرحيل الى باريس ...
ولم تكن رحلته سهلة ولا أيامه في باريس عادية فقد عانى المرين من أجل أن ينال شهادة الالتحاق بجامعة السربون التي كان عليه ان يتردد من أجلها على المكتبات فلا اقامة قارة وصحية ولا مال ولم يكن قادرا حتى على شراء حذاء يقي قدميه من برودة الثلوج ولا معطف له يمنع عنه الارتجاف والتجمد ..ولا احد يمكن ان يقدم له مساعدة الا في السكن فمرة يبيت في دار تونس بمضايقة صديق او بدلار المغاربة ..او في شقة صغيرة فيها بضعة أمتار لصديقه وكان يعد فرنكاته كل يوم ليحافظ على مبلغ لينام في نزل صغير لما تأتي عشيقة الصديق لتقضي ليلتها معه..
ويعود الى تونس في البداية دون أن يحصل على شهادة الالتحاق بالسربون فيعود الى العمل مدة في الاذاعة
لكنه يقوى على نفسه ويعود..ويقضي سنة أخرى مع العذابات والبطن الفارغة فينالها
..وذلك يشجعه على مواصلة التعليم ..الى أن عاد حاملا شهادة الأستاذية في اللغة
والآداب العربية . وهنا يتوقف الروائي . بما يعني ان هناك جزءا آخر دون ان يعلن عليه . لانه فيما بعد نال شهادة الدكتوراه التي جعلته يشتغل في مناصب مهمة ثم يقتلع منصبا عاليا في جامعة الدول العربية بمقرها بتونس حيث عمل أكثر من ربع قرن كانت زاخرة بالعطاءات الأدبية السردية في القصة والرواية والكتابات النقدية والعلمية والاعلامية مع الكتابة للتلفزيون فهو غزير الانتاج الادبي بروح مفعمة بالتفاعل مع الواقعية في كل تجلياتها وأنواعها مع التمسك بالنقد في السرد .نقد المجتمع ونقد الفرد ونقد السلطة وفي طوايا سردياته تركيز على الحريات المفقودة مع سخرية مرة من سلوكيات النظام في التعامل مع المواطنين . ومع الخزب الحاكم ومع المعارضين في الداخل والخارج
وفي كل ذلك لم يترك مرحلة سياسية منذ الاستقلال الى اليوم دون أن يكتب عنها رواية . مع بث كل أفكاره في مجموعات قصصية ايضا
وللعلم أن الكاتب عبد القادر ابن الحاج نصر لم يكتب سيرته الذاتية لأول مرة بل كتب من قبل رواية عن عمله في الإذاعة الذي كان سببا لكتابة بعض مراحل من من شبابه الأول عنوانها "صاحبة الجلالة" كانت حدثا مميزاعندصدورها واذا ما تبينا الروايتين بدقة سنجد أنهما مترابطتين بشكل أو بآخر ..ونجد إحالات في الرواية الثانية على الرواية الأولى وتذكير ببعض الأسماء من المذيعين البارزين والصحفيبن الذين عمل معهم ..
ولا بد من أن نشير الى أن كاتبنا لم يختلق أسماء خيالية في "حديقة اللوكسمبور" فلئن كتب رواية وليست مذكرات أو يوميات مع تلاقيها جميعا في هذا النص فانه إعتمد على أسماء حقيقية لابناء مسقط رأسه "بير الحفي" من ولاية سيدي بوزيد هذه البلدة التي حظيت كثيرا بالاشادة والوصف الدقيق ونجد في الرواية اسماء لعدد كبير من الكتاب من أمثال محمد العروسي المطوي الذي وقف الى جانبه منذ كتاباته الاولى في القصة ..ووقف معه عن بعد لما يعود من باريس وآحتفى به على طريقته لما عاد فائزا بشهادته إذ أكرمه على طريقته الخاصة إذ أخذه في سيارته الى بير الحفي وحضر الاحتفال بمقدمه من باريس وسط عائلته وعاد الى العاصمة وهو ما لا يفعله معه أحد بهذا الشكل ..
وفي الرواية الشاعر أحمد اللغماني الذي فسح له الاذاعة ليعمل ونجد اسم صالح ولا أعتقد أنه غير صالح جغام ..
وفي باريس التقى بأحمد ممو وجلول عزونة ومحمد البلاجي واحمد الهرقام وعامر
بوترعة وسويلمي
بوجمعة..مع أسماء اخرى بدون لقب اذا ما تعمقنا في البحث فيها يمكن أن نتعرف عليها لكن لا يعني ذلك أنهم كانوا الى جانبه أو وفروا له ما ساعده على الإقامة الطيبة أو الدراسة المريحة كانوا جميعا بشكل أو بآخر يعاني الحياة الصعبة
وينطبق عليهم المثل الشعبي "كل حد لاهي في نوارو ".. أو القولة التونسية الاخرى "كل
شاة معلقة من كرعها"
الا ما لاحظناه من موقف الكاتب القصاص والناقد أحمد ممو الذي فسح غرفته الضيقة في دار تونس لصديقه في محنة الكتابة عبد القادر بن الحاج نصر
ونشير الى أن كاتبنا لم يتوقف طويلا عند حديقةاللوكسمبور ..وإن كان قد وصفها وصفا دقيقا ووضع صبعه على النواحي الكثيرة لجمالها الخلاب لكنها ليست هي الرواية. وأحداثها لا تجري في هذه الحديقة انما هو يهرع إليها ليريح نفسه من عذاباته اليومية أو للتأمل في جمالها وهو يقرأ كتابا أو يكتب نصا .. وربما قضى أوقات أطول في أنفاق مترو باريس لانها تحميه من لسعات البرد وقد توفر له مقاعدها قضاء ليلة اذا ما تعذر عليه إيجاد مكان ينام فيه...فهو دائم البحث عن فراش أو حتى كرسي ينام فيه في غرفة بحي جامعي أو في آخر طابق من عمارة عادة ما يكون مخصصا للخدم وقد يضحك فينام ليلة هادئة خارج باريس او في شقة خاصة بطالبة تعرف عليها..ودعته الى غرفتها ..و على فكرة حضور المرأة كبير في هذه الرواية ..حضور طالب محروم من الأنثى ..يتشممها عن بعد .ويقترب منها دون أن يحظى بلمسة فهي
أحيانا طالبة ..وأحيانا نادلة او هي عابرة سبيل ..إشتهى هذه وأحب تلك وحلم بأخرى . وتنمى تلك الجزائرية البيضاء او . تلك التونسية التي يراقبها زوجها عن كثب في غدوها ورواحها او تلك الاثيوبية الجميلة او تلك النيجيرية التي بلغت الخمسين ومازالت محافظة على جمالها او هكذا كان يرها شاب محروم من الجنس وكان يتصور أنه اذا ما دخل باريس سيجد حياة سهلة رائقة فيها العمل والمال والدراسة والنساء ..واذا به في عمق الماساة الدرامية والعذابات التي لا تحتمل ..اذن فإن الكاتب اختار هذا العنوان لانه يشير بوضوح الى أن الرواية تتحدث عن باريس أو عن حياته في باريس
لأنها رمز من رموزها وكان يمكن ان بختار لها عنوان آخر مثل مترو باريس..أو كنت في السربون ..أو المرور من برج ايفل أو التوريفال
او رحلتي الباريسية وكذلك قد يكون عنوانا على غرار الحي اللاتيني للكاتب اللبناني دريس .
وما لفت إنتباهي ان كاتبنا رغم انه سافر الى باريس وهو صاحب كتابين في الرواية والقصة ..وبدأ اسمه يروج في الساحة الأدبية انطلاقا من نادي القصة الذي يشرف عليه محمد العروسي المطوي ..او انطلاقا من الاذاعة حيث يعمل ..وكذلك كانت الجرائد ترحب بكتاباته وتفرد له صفحاتها دون انتظار وعناء ...ومع ذلك فانه لم يتحدث في بغريس عن هذا المجال
فلم يتعرض الى عالمه الادبي الا من خلال الأسماء التي أوردها في الرواية تؤكد انه من عالم الكتابة والثقافة والاعلام ..نعم فالامر غريب أن لا يخصص صفحات عن بداياته . وعن دخوله الى باريس يحمل بعض حضور وبعض شهرة والحقيقة أن المتاعب التي تعرض لها قبل التسجيل في الجامعة . واثناء الدراسة حانت كبيرة جدا أفقدته ذلك الإحساس الجميل بكونه معروف وصاخب حضور في تونس ..لقد نسي ذلك تماما . ولم يعد أمامه غير الدراسة والنجاح مهما كانت الظروف ..فقد تعود عليهاوأصبح العذاب الذي تجرع منه ألوانا والفقر الذي جعله يجوع و يكاد يقضى عليه من البرد..فقد عمل منظف الأرضيات والمراحيض
وعمل حارسا في مستودع يجمع كل المخاطر كما عمل في الاستقبال في بعض النزل ..وعمل موظفا في البريد ..لكنه لم يعرف فيها الا الاهانة والترذيل ..والعنصرية ..
تلك هي اذن بعض ملامح رواية "حديقة اللوكسمبور " ويمكن لنا أن نتعمق في تحليل أسلوبه في كتابة السيرة أو كتابة الذات مع دراسة خصوصيات هذا النوع من الكتابة السردية الروائية ..
تغطية الكاتب محمد بن رجب