قراءة نقدية في نص (عمالقة الهذيان) للكاتبة التونسية القديرة جميلة بلطي عطوي
تقديم محمد المحسن
إن أهم ما يلفت الانتباه،في قصة. القاصة التونسية القديرة ـ ـجميلة بلطي عطوي- المعنونة ب ـ -عمالقة الهذيان ـ.أنها لا تشتمل على ذروة،وأنها مجرد عرض صو،ولا تربطها إلا فكرة عامة، وتتلخص في التعبير عن خواطر النفس.إ ضافة الى الاسراف في الذاتية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نجيز لأنفسنا إعتبار نصها القصصي بعيدا عن مواصفات القصة؟.
الجواب في كلتا الحالتين يحتاج الى تبرير؟. والى نقد مؤسس على ضوء التجارب المعمول بها في جنس القصة.لأنه من الظلم إصدار أحكام تفتقر الى أدلة في فن من فنون الأدب بدون سابق معرفة؟.
وبعبارة أدق وأوضح.أن عملية النقد في القصة تحديدا تعتبر جد حساسة.بحكم تعدد مدارسها. وتنوع قواعدها الفنية.لذلك يتطلب منا دراسة عميقة لكل مدرسة من المدارس القصصية على حدة،حتى يتسنى لنا تصنيف النص أولا المراد قراءته لإ ستحضار مفاتيح القراءة.
لقد تطرقت إلى ما تطرقت اليه للفت إ نتباه بعض الأقلام التي تحاول الخروج ببعض الانطباعات النقدية،في غير محلها عبر الملاحق الثقافية لكثير من الجرائد.وهذه بعض العينات : فبمجرد عدم احتواء النص على ذروة،أو إستعمال القاص لذاتيته في نصه،أو التعبير عن خواطره النفسية فإن ردود أفعالهم.أما رفض النص،أو تصنيفه ضمن الخاطرة.
وهذا غير مقبول في عرف جنس القصة؟.بل يعد تفتيت للبنية التحتية لحركيتنا الابداعية المشكلة من الأقلام الشابة.لذلك فان اختياري لنص ـ عمالقة الهذيان ـ كان عن قصد،ولسببين اثنين: لأنه عمل مميز،وظفت به القاصة تجربتها الفنية الراقية.ولأثبت أن نص ـ عمالقة الهذيان ـ به جميع مواصفات القصة الحديثة.
النص هو عبارة عن لوحة فنية أصبغتها القاصة بالمذهب السريالي،بحيث كل لفظ منها يحوي إشارات على شكل مستقيم وكل فقرة منها ترغب القارئ على تلذذ متعتها.بتعطش لتثير فيه لاحقا حيرة التساؤل عن واقعه بدهشة لا نظير لها؟.
ففي مستهل النص القصصي :القاصة تستغني عن العقل الواعي وتلجأ الى العقل الباطن.نتيجة الشعور بتجفيف الأوهام وبخيبة الآمال،في العالم الخارجي المقرف والمتخم بالهذيان.لتفريغ ما ترسب بداخلها،وفي مستهل النص،أيضا القاصة تبدو في حالة ذهول،وهو ما يفصح عن المقطع التالي ـ" في زمن الهذبان يختلط الخيط الأبيض بالأسود ،تحتار الشمس وقد أردتها المتاهة فلا تدري شروقها من غروبها-.ما يستشف من هذا المقطع أن القاصة تمهد للتعبير عن خواطر النفس في مجراها الحقيقي يعيدا عن كل رقابة يفرضها العقل الواعي ودون أي حساب لأي اعتبارات..؟."
وفي الهامش الفاصل بين العقل الباطن والعقل الواعي تتقلص المسافات بنص القصة محاولة من القاصة للمزج بينها.بدون أن تخضعنا القاصة لأصول المنطق والتفكير المعقد السليم،وهذا لا يعد مساسا بمواصافات القصة أوإخلالا باجراءاتها.بل بالعكس.فبالرجوع الى تجربة الكتاب السرياليين فيما يتعلق بالتوظيف السليم لتقنياتهم نجد أن أهم قواعدهم أن تتغلب سمات العقل الباطن وصبغته على سمات العقل الواعي وصبغته في عملية المزج بين تجارب كل منهما.
المبدعة التونسية جميلة بلطي عطوي في قصتها القصيرة جدا هذه-عمالقة الهذيان-انسجمت مع ذاتها لتعبّر عما يمور داخلها من أفكار في زمن"الجنون"على حد توصيفها،فهي لم تنصب نفسها قاضية لهذا الزمن الذي يتربّع عليها دون خجل أو وجل"عمالقة الهذيان" ولا وعدتنا بباقات من ورد،أو عبارات المديح،هي نأت بنفسها عن كل ذلك،وأبقت للقارئ تلك المساحة من التخييل لربما هي دعوة للقارئ،أن يكون شريكا معها في العمل الإبداعي الذي أصبح القارئ به مكونا رئيسا،وتحديدا في هذا الجنس الأدبي ( القصة القصيرة جدا) بصفته لا يحمل أو غير متاح له اللغة كثيرا،لذلك عمدت -جميلة-وبأقل أقل الكلمات أن تذهب إلى الترميز الحقيقي والحداثة باعتبارها انقلابا على الثابت.
هنا في هذه القصة القصيرة جدا،تذهب القاصة إلى أبعد حدود المفارقة الحقيقية التي ساهمت بشكل فعال في إحداث تلك الدهشة التي ينتظرها القارئ،وأرى أنها بهذه القصة عملت على تعرية المجتمع المنافق والذي يظهر ما لا يبطن.
ولأن لا عمل سردي كامل،لجأت الكاتبة إلى الرمز الذي يشوبه شيء من الضبابية من خلال رؤيتها الخاصة،فظهر جزء من القصة وكأنه مغطى بالكامل وبحاجة إلى إعادة تفكيك من قبل القارئ.
هذه القصة الني نسجت خيوطها ببراعة واقتدار الكاتبة التونسية القديرة جميلة بلطي عطوي من وحي الواقع المعيش هنا / الآن..وهي ليست محاكاة للواقع كالصور الفوتوغرافية،لأننا أمام عمل أدبي..و ليست في ذات الآن مجرد تقارير وصفية لحكايات حدثت فعلا وعاينتها الكاتبة كشاهدة مباشرة،وإلا جردنا العمل الأدبي من بعده الجمالي المرتبط به عضويا و وظيفة وامتدادا..و يفسر النقاد واقعية هذا النوع من الكتابة القصصية بظاهرة المشابهة la vraisemblance أي تخيل قصة شبيهة بالواقع إلى حد التماهي،و ظاهرة التماثل la représentation أي كيف يتم تقريب الحدث من القارئ على أنه واقع،لكن من وجهة نظر الكاتب..
فلسفيا النص يثير قضية الصراع الجدلي الدائم بين المتناقضات في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة..زمن متخم بالزيف في"زحمة الجعجعة."زمن موسوم في جزء منه بالزور والبهتان،حيث ستذهب الأوهام والأراجيف زبدا وطواحين ريح.
نحن نتاج هذا الديالكتيك..
نحن التركيب في دورة نفي و نفي نفي لا تنتهي..
لكن الخلاص و الإمساك بالحقيقة لن يكون إلا بالتعالي حدسا و إشراقا لمعانقة الجوهر خارج التناقض و الحيرة و التشظي الذي يحيل عليه الوعي و هو يحاول الإمساك بالأنا..
و ما زال النص يوحي بالكثير .
لك مني سيدتي القاصة-جميلة بلطي عطوي-باقة من التحايا المفعمة بعطر الإبداع..
عمالقة الهذيان
في زمن الجنون يبيع الهذيان اللغة للضّجيج،تشهق المفردات وهي كأوراق الخريف تتلاعب بها أوتار الفحيح المجروح .
في زمن الهذبان يختلط الخيط الأبيض بالأسود ،تحتار الشمس وقد أردتها المتاهة فلا تدري شروقها من غروبها .
أما الحكماء،أدعياء اللّغة والبيان فيرفعون راية مخاتلة تقهر البصر فلا يدرك أسوداء هي أم بيضاء لأنّها ببساطة كالحرباء على قدر المكان وغاية القول تصنع لونها.
في دائرة الهذبان تتشكّل،تتحوّل إلى طواحين ريح ،بل عواصف وما اكثر العواصف الكاذبة في زمن البهتان.جعجعة قول ينتفض لها البوح.تجثو اللغة القرفصاء استعدادا للركض،بحثا عن منافذ الخلاص من العيّ الموبوء.هروبا من عمالقة الزيف،من الحيتان،يرفعون شعار النصر ولا طعان،كأبطال الورق في حكايات جدتي الخيالية يمرحون ليلا وحين الضوء يتيهون في الدّوّمات العصيّة،لا عصا بها يهشّون،لا لغة بها بقنعون.،يتحوّلون مجرّد خفافيش لا حول ولا قوة لهم ولا حكمة تنجي من الانهيار.
لك الله ايّها العقل،لك الله أيّها البيان،ضعتما في زحمة الجعجعة.
في زحمة ادعاء الفروسية ولا فرسان.
تونس...7/ 4 / 2022
بقلم جميلة بلطي عطوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق