الخميس، 6 فبراير 2025

التعري الفكري: بين الخوف من التوثيق وسلطة الكلمة المكتوبة بقلم الكاتبة هدى عزالدين محمد

 التعري الفكري: بين الخوف من التوثيق وسلطة الكلمة المكتوبة

في عالم يفيض بالكلام العابر، حيث تتطاير الأفكار في الهواء كما يتناثر الغبار، تبقى الكتابة الوسيلة الأكثر متانة لترسيخ الفكرة وإثبات وجودها. فالكلمات المنطوقة، مهما بلغت قوتها، تظل رهينة اللحظة، بينما تمنحها الكتابة امتدادًا أبعد، يجعلها قابلة للمساءلة والتطوير والتفاعل مع الزمن والعقول المختلفة.

لكن رغم ذلك، هناك من يفضل بقاء أفكاره في حدود الشفاهية، سواء في النقد الأدبي أو في مجالات الفكر المختلفة، متجنبًا توثيقها بحجج متعددة. فمنهم من يتذرع بالخوف من سرقة أفكاره، ومنهم من يرى أن الكتابة تُخضع الفكرة لاختبار صارم قد لا تصمد أمامه، بينما في السياق الشفاهي، يمكن للأفكار أن تبقى في دائرة العبارات الفضفاضة، التي تتيح للمتحدث مساحات للمراوغة والتعديل متى أراد.

الكتابة كاختبار للحقيقة

إن إنتاج المعرفة لا يتم عبر التأملات العابرة وحدها، بل يحتاج إلى توثيق يُخضع الفكرة لامتحان الصياغة والترابط، حيث لا يكفي أن يكون المرء ممتلئًا بالأفكار، بل عليه أن يُظهرها ضمن بناء منطقي يسمح بتقييمها بموضوعية. في النقد الأدبي، على سبيل المثال، قد نجد من يطرح رؤى طويلة في النقاشات الشفهية، يغوص في التحليل ويستفيض في استعراض الأفكار، لكن حين يُطلب منه تحويل هذه الرؤى إلى نص مكتوب، يتراجع أو يتجنب ذلك بحجج مختلفة، وكأن الكتابة تكشف ما لم يكن ظاهرًا في الحوارات العابرة.

في بعض الأحيان، يُبرر هذا التراجع بالخوف من "سرقة الأفكار"، لكن الكتابة ليست مجرد تسجيل، بل هي فعل إبداعي قائم على البناء، مما يعني أن الفكرة لا تكتسب قيمتها الحقيقية إلا بصياغتها ضمن رؤية متماسكة. ومن يخشى الكتابة، فغالبًا ما يدرك في داخله أن أفكاره قد لا تصمد أمام متطلبات التحليل المنهجي، أو أن نقده الشفهي لم يكن يرتكز على أسس دقيقة، بل كان أقرب إلى الانطباع العابر.

الهروب من التوثيق: بين الغموض والمسؤولية

في الفضاءات الفكرية، هناك من يفضل أن تبقى أفكاره غير موثقة، وكأن الغموض يمنحها نوعًا من السلطة، حيث تظل عصية على التقييم الدقيق. لكن الحقيقية أن الفكرة غير المكتوبة تبقى محكومة بالزوال، كما تبقى عرضة لسوء الفهم أو التحوير. بينما الكتابة تفرض على صاحبها مسؤولية، تلزمه بأن يكون أكثر دقة ووضوحًا، وتحرمه من التراجع عن موقفه بسهولة، مما يجعلها تحديًا للكثيرين.


الخاتمة: بين التعري الفكري وشجاعة المواجهة


التعري الفكري ليس فضيحة، بل هو شجاعة. أن تكتب يعني أن تمنح فكرتك الحق في الوجود الحقيقي، أن تخضعها لاختبار الزمن والعقل والمنطق. أما من يكتفي بالحديث العابر، فقد يكون مدركًا، في أعماقه، أن فكرته لم تكتمل بعد، أو أنه لا يريدها أن تواجه معايير النقد الجاد.

في النهاية، يبقى السؤال: هل نخاف من الكتابة لأنها تُلزمنا بالدقة والوضوح، أم لأننا نخشى أن نرى أفكارنا على الورق، مجردة من الهالة التي تحيط بها في عوالم الكلام العابر؟

هدى عزالدين محمد



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق