قَراءَةٌ لِنَصٍّ أدبيٍّ عِنوانُهَـا...
"مَا كانَ في الحُسْبانِ.. مُرْتَقَبًا!"
تَوْطِئَـــــةٌ...
قَالَ شاعِرٌ
(رَحلُوا وَ ما أبْقىٰ الرَّحيلُ مَتَاعًا
تَركُوا الحَنينَ مَعَ الأنينِ مَشَاعا)
وَ نَحنُ نَقُولُ...
مُنْذُ البِدايَةِ..
عَدَمٌ وَ رَحِيلُ،
في لَيلٍ بَهيمٍ
تُبْرَقُ فِيهِ سِيُوفٌ..
وَ صَهيلُ!
غالِبًـا ما تَقدحُ وَمضاتٌ سريعةٌ في ذِهنِ المُتأمِّـلِ لِنصٍّ ما، وَ تَتركُ سَوْرَةَ أفكـارِهِ تَتزاحمُ فيمـا بَينهَــا، إلـىٰ حينِ البَوحِ بهَا في أثناءِ الوَصفِ، أو التَّصدِّي لِلحديثِ عَنهَا.
بينَ يَدَيَّ، نـصٌّ رهيـفٌ، تفـوحُ منْ بينَ حُروفـِهِ هَمْهَمـاتٌ وَ أنَّـاتٌ صَدِئَةٌ،
قديمةٌ جدًّا، يُلازمُهـَـا الحنينُ، وَ يكسرُ خاطرَهَــا رَحِيلٌ وَ فراقٌ لا عـَودةَ مِنْـهُ!
فيهِ عَجَلَـةُ الحَدثِ تَسحـقُ بسرعتِهَـــا
ارْهاصَاتِ النَّفسِ وَ آمالَهَــا، بَلْ تُطوُّحُ بهَـا بعيدًا في سَفرٍ لا رَجعـَةَ منهُ، بعدَ
أنْ تِســتَوفي، فـي ظـــلامٍ دامـــسٍ، طمُوحاتِهَــا وَ تَطلُّعاتِهـَـا في الحَيــاةِ.
أَصْلُ المَوضُوعِ..
أولًا:- النَّـصُّ الأدبيُّ..
" رِحْلَةٌ أخيرَةٌ "
اِسْتيفاءٌ قاتمُ المَلامحِ
قبلَ الأوانِ..
شَدَّ عزمَ الرَّحيلِ
دونَ رِثاءٍ
أو وَداعٍ
مُسرعًا..
كأنَّهُ أصابعُ بَرقٍ
مَدَّ جَناحيهُ لِلأفقِ المَجهولِ
ما وراءَ الدّهشةِ
وَ الذُّهولِ
عَوالمُ تَخفي مَناسكَهَا
المُريعَةَ
عنْ أسماعِ التَّأنِّي
أسفارُهُا لا تعرفُ الوِهَادَ
بِلا مَوعدٍ
اِغْتَالَ- عُنوَةً- ذاكَ الغرُوبُ
مرابضَ نحيبِهَا
زادَهَا زَمهريرًا
وَ الحناجِرُ مِلْءُ التَّرقُّبِ
خَوابيهَا
صِراخٌ وَ عويلُ
أبْكَمٌ مزَّقَ خِدرَ الشَّمسِ
حَياءً منْ هَولِهَا
وَ انحَنَىٰ جبينُ القمرِ
تَعتَصِرُ رَهفَهُ،
بِلا رَحمةٍ..
غَياهِبُ الألَمِ
في جُنْحِ الخَفاءِ
عانقُهُ النَّدَىٰ
حَدَّ الثُّمَالةِ
وَ لَملمَ شَظايَا
خُطاهُ الأخيرَةِ!
( بدر الدريعي / العراق )
ثانيًا:- القَراءَةُ
النّوعُ الأدبيُّ:- قصيدةُ نثرٍ
الكاتبُ:- د. بدر الدريعي/العراق
القراءَةُ:- صاحب ساچت/العراق
١) فِكرُةُ النَّصِّ..
مَفهُـومُ العَجلـةِ يتمثَّـلُ في مقـدارٍ تتغيَّـرُ بهِ سرعَـةُ الجـسمِ، أثنــاءَ حركـةِ الحدثِ الّتي تنتقلُ بهَـا مَاهِيَّتَـهُ، كَمًّــا
وَ كَيفًـا، زَمنًـا وَ مكانًا، إلـىٰ عـالمٍ آخــرَ، مختلفٍ. ينتجُ ظــاهرةَ ملامحَ جديـدةٍ،
وَ ينعَـكـسُ أثرهَــــــا علــىٰ مشــــاعــرَ
وَ أحـاسيـسَ تُلازمُ الفـَردَ كَإنسـانٍ فيـهِ وَعيٌ وَ لديهِ إرادةٌ، وَإلـىٰ حَدٍّ ما يمتلكُ
حريةً وَ قادرٌ علـىٰ التَّمَاهي سَايكولُوجيًّا لِيُحــاكي سِمَـةً أو جــانبًا لـدَىٰ الآخــرِ، فَيتحوَّلُ منْ خلالِ النَّموذجِ عنْ طريقِ سِلسلَـةٍ مـنَ التَّقمُّصــاتِ الَّـتي تُؤسَّـسُ عَليهَا أو تُحدَّدُ منْ خِلالهَا "الشَّخْصِيَّةُ".
٢ ) العُنْوانُ.. "رِحْلَةٌ أخيرَةٌ"
الرَّحيلُ مصدرُ "رَحَلَ".
رَحَلَ يَرحَلُ، رَحيلاً وَ تَرْحالاً..
وَ الرِّحْلَةُ أسمٌ منَ الفعلِ "رَحَلَ".
فَهو راحِلٌ، وَ المفعولُ مرحولٌ عنهُ.
رَحَلَ عَنْ بَلَدِهِ:- تَرَكَ مَوْضِـعَ إقــامَتهِ
وَ ذَهَبَ إلـىٰ مَكــانٍ آخَرَ، اِنْتَقَلَ منهُ.
وَ عنوانُ نصِّنَا المَعرِوضُ لِلقراءَةِ هُـو..
(رِحْلَةٌ أخيرَةٌ) مـُركَّبٌ مـنْ مُفــردَتينِ، الثانيةُ صفةٌ للأُولـىٰ..
لا شَكَّ أنَّ العنوانَ وَجـهٌ إعلامـيٌّ لأيِّ نصٍّ أدبيٍّ، بلْ سيماءُهُ وَ علامتُـهُ.
ذُو أهميَّــةٍ كبيــرةٍ لِلقـاريء، يَرشــدُهُ إلـىٰ مَتنِ النَّصِّ!
وَ هو الخُطوَةُ الأولـىٰ عندَ تَجاوُزْنَا عتبةَ النَّصِّ، وَ الوُلوجُ إلـىٰ مُحتـَواهُ،
وَ مِنَ الأجدرِ أنْ يَكونَ اسمُ نكرةٍ كي يُغطِّي مَسـاحةً واسعـةً لِتأويلِ ذاكَ النصِّ عندَ المُتلقِّي، وَ فهمِ رسالتِـهِ.
ممّـــا حَـدَا بالنُّـقَـادِ إلـىٰ تأمُّلِ أُولَـىٰ العَتباتِ وَ تحليلِهَا وَ ربطِهَـا بالمَتنِ، لانَّـهُ مفتَــاحٌ ضـروريٌّ للوصولِ إلـىٰ أعماقِ النَّصِّ، وَ تفكيكُ عُقَدَ فَحواهُ، بوصفِــهِ اسمًا، يَكشـفُ عناصرَ خَفيَّةٍ
أو ظــاهرةٍ بشـكلٍ مُخـتزلٍ وَ موجزٍ،
وَ مُنسجمًا معَ النصِّ.
ثالثًا:- مَتْنُ النَّصِّ
١) التَّعريفُ..
النصُّ الأدبيُّ الّذي بينَ أَيدِينَا نوعٌ يعتمدُ تصنيـفَ الأسـلوبِ أو المحتوىٰ،
وَ يتحـدَّدُ بواسـطةِ التَّقنيـَةِ الأدبيـةِ أو اللَّهجةِ أو المحتَوىٰ.
فهــو نصٌّ أدبيٌّ نَثــريٌّ - قصيـدةُ نَثرٍ تَحديدًا- يَتَّصفُ بالبساطةِ وَالمرُونـةِ، بحيثُ لا نلمسُ فيهِ تراكـيبَ معقـدةً
أو محسنــاتٍ بديعيَّــةً؛ بلْ لَجَأ كاتِبُهُ
الـىٰ استِعمالِ كلماتٍ بسيطةٍ، وَسطيةٍ أو شعبيةٍ مفهومةٍ، سهلةِ القراءَةِ؛ مِمَّــا جَعلهَا مرغوبةً كونَهَا بعيدةٌ عنِ التَّكلُّفِ في الأسلوبِ وَالسَّردِ، غَنيَّـةٍ بالسلاسَـةِ
وَ البساطةِ اللُّغويَّةِ.
٢) بُنْيَةُ النَّصِّ
واضحٌ أنَّ كتـابةَ هٰكـذَا نُصـوصٍ تَتطلَّبُ حَذاقةً وَ دقَّةً في جوانبِ بناءِ الكاتبِ لنَّصِّهِ منْ خلالِ بُنْيَتَينِ:-
* أَوَّلهُمَا:-بُنْيَةٌ سَطحيَّةٌ..
تُبـادرُ بتَقديــمِ مَفـاهيـمَ وَ دَلالاتٍ
إلـىٰ ذهنِ المُتلقِّي منْ خلالِ القَـــراءَةِ
الأوَّليَّـــةِ، مَــا يُمكِّنُ فَهمَهُ وَ استيعــابَهُ.
* وَ أُخرَاهُمَا:- بُنْيَةٌ عَميقةٌ..
يَستشفُّهَــا المُتلقِّي الحَذقُ، أو مَنْ يَتصــدَّىٰ لِلكتابَــةِ عــنْ ذلـكَ النـَّـصِّ،
وَ يَعـرضُ دَلالاتـِهِ بعــدَ تفكيـــرٍ عميــقٍ
وَ منطقــيٍّ باستعمـالِ آليَّــةٍ مُنــاسبـةٍ لِمُقاربـةِ النَّـصِّ وَ الغَـوصِ في أعماقِهِ.
٣) حِبْكةُ النَّصِّ وَ إسلوبُهُ...
الحِبكَةُ هي نُقطَةُ الذَّروةِ الّتي تأزمتْ فيهَا الأحداثُ، وَ كُلَّمَا تأزمَتْ
تَزدادُ نِسبةُ التَّشويقِ لدَىٰ القارئ!
هـٰذا النصُّ، قامَتْ فيهِ حِبكةٌ بسيطةٌ عَلـىٰ ثِيمَةٍ واحدَةٍ، مَفادُهَــا:
طلبُ الوفـاءِ قبلَ أوانِهِ عُنوَةً لا بُدَّ أنْ يكـونَ مصـدرُهَ مَحَـلَّ قـُـوَّةٍ وَ ظُلــمٍ،
بِخــاصَّـةٍ لَـــو أنَّ المُتَوَفَّىٰ ذُو قيمـَــةٍ اِعْتباريَّـةٍ، وَ ماديَّـةٍ، لا طاقةَ لصاحبِهِ علـىٰ انتزاعِهِ منهُ، دونَ وَجهِ حَقٍّ!
لِذا نَلْحظُ إنَّ الكاتبَ هَيَّــأَ ابتداءً جـَوًّا مَشحـونًــا بالقهــرِ، في إسلوبِ
الوَفــاءِ باستعمــالِ عِبـاراتٍ مُحدَّدةٍ،
تُعبِّرُ عنْ سلطَةٍ اسْتبداديَّـةٍ في تنفيـذِ
مآربِهَــا تَمثَّلَتْ بِــ :-
* شَدِّ عزمِ الرَّحيلِ
* دونَ رثاءٍ أو وداعٍ..
* مسرعًا كأنَّهُ أصابعُ برقٍ
* مناسكُها المُريعةُ
* أغتالُ- عُنوةً-
* صراخٌ وَ عويلٌ
* مزَّقَ، اعتصرَ، بلا رحمةٍ
* لَملمَ شَظايا الخُطىٰ..... إلخ!
فَضـلًا علـىٰ إنَّ النَّـصَّ كُتِبَ بإسلوبٍ فنيٍّ بسيطٍ، بلُغةٍ سلسةٍ تَمَكَّنَ الكاتبُ مِنْ خِلالهَا أنْ يوصِلَ فكرتَهُ بسهولةٍ، دونَ تَكلُّـفٍ أو تَعقيدٍ، تشَدُّ القــارئ للمتـابعَةِ، دونَ إجبــارهِ عـلـىٰ ذلكَ.
رابعًا:- الخَاتمَةُ
جَمالُ هـٰذا النَّصُّ في حُزنِهِ، وَ يأسُ كاتبِهِ! فهـو تَجربَةٌ فرديَّةٌ أرادَ كاتبُهُ أنْ يُلْفِتَ النَّظرَ إلـىٰ كَمٍّ هائلٍ منْ تَجاربَ تُطْمَسُ أحداثُهَا معَ الأيَّام دونَمَا ذِكرٌ أو توثيقُ سِيـرَةِ حَيــاةٍ مَنْ وقَعَ في بَراثنَ تُلكُمُ التجاربِ.
وَ هـو هُنَــا - أيْ الكـاتِبُ - أَخَالُـهُ عَمَدَ ألـىٰ رَسمِ ملامحِ تَجربةٍ يَمرُّ بهَــا أقرانُـهُ، وَ قَدْ يَكـونُ عاشَهَـــا حَقيقـَـةً،
وَ يريـدُ مـنَ الآخـرِ أنْ يَمُــدَّ يَـدَ العَـونِ
لإيقافِ مهزلةِ تأريخٍ ظَلمَ أبناءَهُ وَ بَناتَهُ،
ليسَ لأنَّهُم عاقُّونَ؛ إنَّمَا لأنَّهُم يَتطلعُونَ إلـىٰ فضـاءاتٍ أَرحبَ، وَ أكثـرَ إشرافًــا علـىٰ مستقبَلِهِم القابِلِ.
أَخِيـــــــــرًا...
هـٰكــذَا تَراءَىٰ ليَ النّـصُّ، وَ قرأتُهُ بهـٰـذَا الشَّكلِ وَ المَضمُونِ، فَأرجُو مَنْ يَجدُ ثَمَّةَ فائِدَةً أو مَعلومَةً، يُطوُّرُ بهَــا قـَــراءَتي المُتواضعَــةَ، بِشـكلٍ خـاصٍّ،
وَ يُقَوُّمُ الٕابـداعَ فـي المَجــالِ الأدبيِّ..
بشكلٍ عامٍّ، فَنيًّـا وَ لُغَويًّـا..
بُغيةَ تنميَةِ ذَوقِ المُتلقِّي وَ تَحفيزِهِ كَي يُتابعَ بِشَغَفٍ وَ دِرايَةٍ مَا يَنتجُهُ الأدبــاءُ
وَ مَا يَنشرُونَهُ..
وَ حَسْبِي - بَلْ يَسعـدُني جِدًّا- إنْ وُفِّقْتُ حِينمَـــا تَنـاولْتُ جَـوانِـبَ ذاتَ فــائدَةٍ لِلكَشفِ عنْ محتَوىٰ نَصٍّ أدبيٍّ لِجَعلـِهِ بينَ يَدَي المُتلقِّـي، وَ لِمَـنْ لَـهُ رَغبةٌ في تَطويرِ ذٰلكَ..
وَ آمُلُ أنْ تَروقَ قراءَتُنَا المُتواضعَةُ
لِلإستـاذِ الفـَاضلِ (بَدرُ الدُّرَيـعي)
كاتبُ النَّصِّ البَديعِ.
مَعَ أطيَبِ التَّحياتِ
(صاحِب ساچِت/العِرَاق)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق