رحلة بحث / قصة قصيرة
ليلى عبدالواحدالمرّاني
هاجسٌ غريب دفعها أن تفتّش عنه بعد عقودٍ من النسيان. هي تزوّجت وأنجبت، وهو سافر ولم تعد تسمع عنه شيئاً، بعد أن رفضه أهلها، وبعد معاناةٍ مع النسيان، كادت تفقدها ذاكرتها، تقول، “ وبغفلةٍ من الزمن قفز اسمه من بين دهاليز ذاكرتي المعتمة. “.
آلامٌ قاسية، ورحلة شقاء مع النسيان، ورغبةُ أهلٍ جامحة في تزويجها كي تكون نهايةً لأحلامها في أن تلتقيه يوماً. نظرت إلى وجهها في المرآة، “ ما زلتُ جميلةً، وما زالت عيناي تشعّان بريقاً أنثويّاً، ودمعةٌ حائرة تطوف بهما، صفةٌ تفرّدتُ بها بين طالبات الكليّة، ولكن أين هو، هل حبسني طيفاً في ذاكرته، وأخرى يعيش معها، وأنجب منها الطفل الذي حلمنا به معاً؟ ألا يزالُ وسيماً، كما عرفته، أم فعلت فعلها السنين ؟”؟
إعتدلت في جلستها، شريطُ ذكرياتها معه عاد إلى الوراء. لقاءاتٌ معدودة اختطفاها من عمر الزمن،
ذلك الشاب الوسيم، القادم من أرضِ الموت والتهجير، لم تره يوماً برفقةِ أحد، وحيداً يدخل نادي الكلية، إلى منضدةٍ منزوية يجلس، نظراته لا تفارقُ الكتاب الذي يرافقه بانتظام، فقط حين يذهب لشراء كوبٍ من الشاي أو القهوة، يرفع رأسه دون الإلتفات إلى أحد، ورهانٌ كان بينها وبين صديقاتها أن تدير رأسه !
منضدةٌ طويلة وسط إحدى قاعات النادي المخصصة للدراسة، كانت وصديقاتها يتحلّقن حولها، حين ظهر فجأةً . تلفّت حوله، كانت منضدته المنزوية قد شغلها غيره، وركن المطالعة مكتضٌّ بالطلبة . كرسيّ واحد شاغر في الطرف القصيّ للمنضدة التي تحتلها وصديقاتها. بهدوئه المعتاد جلس، لم يرفع رأسه عن كتابه، لهمست بإذن صديقتها.. “ سترين “ ! وبهدوءٍ اقتربت منه، حاملةً كتابها، همست.. “ هل تسمح؟ “، رفع رأسه، والتقت عيناه الخضراوان بعينيها الدامعتين أبداً، وابتسامةٌ خفيفة، أودعتها كلّ أنوثتها، أشارت إلى صفحةٍ ،عشوائيّاً فتحتها .. “ ممكن تشرح لي هذه الجملة، لو سمحت ؟ “؟
تلعثم، ثم تمالك نفسه ، وهو الطالب المتفوّق في قسمه، والذي تطارده عيون زميلاته ، فلا تجد صدىً.
وكان لقاء ثانٍ، وفِي المكان نفسه، ولقاء ثالث، وآخر، همس في أذنها فجأةً، وبلهجته التي تعشقها ..” بحبّك، بموت فيكِ “. دارت الأرض بها نشوى، وهي التي راهنت أن تلفت انتباهه، غارقةً في حبّه وجدت نفسها، والسنة الدراسية شارفت على الإنتهاء، وإلى بلده سيعود بعد أن أنهى بتفوّق أربعة أعوامٍ في منحةٍ دراسية، هبةً من الحكومة العراقية ، وهي ما تزال في السنة الأولى.
تلاحقت الصور أمامها، وكأنها حدثت بالأمس حين تحطّم جدار النسيان. بكت حين سافر، رافضةً مشهد الوداع في المطار . “ سأكمل دراستي في أمريكا “، كتب في رسالته الأولى، “ وأعود لأختطفكِ زوجةً ترافقني إلى بلدي “..
غزيرة انهمرت دموعها وهي تسترجع أياماً وليالٍ عاشتها مترقّبةً رسائله. كتب في إحداها، وبعد سنتين من سفره..” سأعود لأتقدّم إلى أهلكِ، وتأتين معي. “.
ثورةُ عارمة اكتسحت كلّ دفاعاتها كانت حين أبلغتهم بذلك. إنتفض الأب، يسابقه الأخ الأكبر في تقديمها قرباناً للشرف المهدور ..!
عادت تعبث على شاشة الكومپيوتر، تضع اسمه الثلاثي، وتبدأ من جديد رحلة البحث عن حبيبٍ أطلق ساقيه للريح، ما أن سمع ضجيج المعارك ..!
إنهارت، ومحاولة انتحارٍ فاشلة، محت كلٰ ذاكرتها وما يتعلّق به، وعلى الزواج أعلنت حرباً.
تقول صاحبتي، أنها طوت كلّ أحلامها وذكرياتها معه، كلّ لحظات حبٍّ أو ألم، وفي بئرٍ عميق رمتها، وأهالت عليها تراباً، ثمّ صخوراً لتأكيد موته، وصوب الحياة أدارت وجهها . فجأةً، ودون استئذانٍ من حاضرها، أو احترامٍ لعقودٍ طويلة من النسيان، انبثق برعمٌ صغير من بين الركام . بعد أكثر من أربعين عاماً، عجباً! هل هو الإحباط الذي تعيشه، أم الفراغ الذي يبتلع أيامها وسنين عمرها، بعد أن تزوّج الأولاد، والزوج رحل ؟
المرّة الأخيرة، قالت لنفسها، وضعت اسمه على الشاشة، صدمت، عشرات الأسماء المشابهة تتوالى أمام عينيها. تركت البحث بعد أن أعياها التعب، مجرّد فكرةٍ طارئة، قالت، أو حبّ استطلاعٍ تحوّل فجأةً إلى تحدٍّ وإثبات شيء، أي شيء؟ لا تدري!
عنوانٌ في بلدٍ مجاور قفز إلى ذهنها، كان مقرّراً أن يستقرّا هناك حين عودته، ويعيشان معاً. إلى البحث عادت من جديد وقد أمسكت الخيط من رأسه، كما تقول . الإسم والعنوان . سكتت، وكأنها دخلت في غيبوبة، أو ربما أضاعت الخيط والعصفور وهي تبحث في عالم خيالها. إحترمتُ صمتها، وأحدتُ نظري عنها . فجأةً، وبصوت ناسكٍ بوذيٍّ يتعبّد، جاء صوتها عميقاً ، منتحباً ..” أتعلمين، وجدته، إسمه الثلاثيّ الذي ما زلت أذكره، كان مسبوقاً بكلمة _ المرحوم _ ….
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق