فصل قصير من رواية "الجثة" التي ستصدر لي في كتاب بعد أن يقرأها أصدقائي على الفايسبوك:
كانت ريحُ الربيع النديّةُ تعبث بفستانها الحريري لِتَلْثمَ فخذيها الطريَّيْن، وراحت تشد بأناملها المتواطئة السّخيّةِ أطرافَه المسافرة إلى الأعلى فلم تكن تتوقّع أن تتعرّى على هذا النحو الرومانسي الفاضح في بلد العشاق سيدي بوزيد،أمام مارّة يُمثّل الحياء لديهم جوهر أعمارهم فراحوا يتنهّدون بحرقة الأسى والأسف "خسارة لقد باعت شبابها وحسنها".أما هي فكانت تزمّ شفتيها الحمراوين على تنهيدة الحرمان لائمة نفسها الشيطانية المتهالكة على متع الدنيا الفانية والتي أغْوَتْها وأوقعتها في حبائل هذا المصير الشحيح الذي لا تنزل الأمطار بأرضه المجدبة تحت سفح جبل أخْشَبَ مثل عجوز متيبّس في هيكله العظمي بأرذل العمر "اه لو تدرون أن كل نزوات الشباب العسلية وأدْتُها حيّةً وهي تقبع الآن منكمشة في سرداب النسيان البارد المظلم ،كنتُ عمياءَ تائهةً " واصلت طريقها إلى المنزل الذي لاح لها عن بعد متدثرا بالصمت وكم هي الطريق طويلة بطول الذكريات المُرتَّبةِ ترتيبا أفقيا في خزان صدرها وحين أدارت بتُؤَدة رتيبة مفتاح الباب الخارجي الحديدي الأصمَّ قالت بحزن فاترٍ "أنا عمري الحقيقي مُحتجِبٌ خلف سحابة ثقيلة كالصخر لا تتزخزح، رابضة فوقي منذ سنوات ثقيلة مديدة كالقلق الذي تبعثه في النفس الهجائر، أنتظر ريحا طرية لتزيحها من على صدري، ريحا كالتي هزّت فستاني اليوم، حتى تعيدني إلى الحياة والى الشباب الذي مازلت أتشبث بتلابيبه "، أحست أنها محطمة كغصن الياسمين ، ارتمت جسدا طواهُ الارتخاء على أريكة مهملة في ركن خافت لا تدركه أشعة الشمس الا لماما وكانت أمامها ساعة نحاسية مصلوبة على الجدار الباهت تدق بدون ملل ،قذفتها بفردة حذائها العالي قذفة شامتة في القلب فتساقط البلور المكسور تحت قدميها العاريتين ، ابتسمت وأخذت تُمْعن النظر شاردة اللُّبِّ في إطار الساعة المهشمة والمعلّق شاغرا من الحياة ثم جالت ببصرها بلا مبالاة في أطراف الغرفة الكئيبة كأنها تدخلها لأول مرة دون رفيق يشاركها وحدتها المزمنة في هذا البيت الموحش الغارق في الظلمة منذ سنوات، ومن ثمة رفعت رأسها تحملق في السقف المسطّح كالقبر حتى أخْلَدت إلى النومٍ،كان هذه المرة على غير عادة كل الليالي السابقات نومًا أخضر فرأت نفسها مهرا يعدو بكل حرية، ولم تنزع فستانها الحريري بل التصقت به بكل ما فيها من مشاعر حميمية ،فكم أحبّته تلك الليلة وأحبّت أكثر كل شباب سيدي بوزيد في ذلك اليوم الدافىء الذي أنعشته ريح الربيع.
منصف الصالحي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق