الاثنين، 26 فبراير 2024

إشراقات صورة الوطن..في قصيدة :"يا تونس الأحداق"..للشاعرة التونسية السامقة د-آمال بوحرب بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 إشراقات صورة الوطن..في قصيدة :"يا تونس الأحداق"..للشاعرة التونسية السامقة د-آمال بوحرب


يا تونس الأحداق 

يا تونس الوله الجميل

 إني سابحة في مقل الشوق

رفعت في بحر عينيك أشرعتي 

غصت حتى  أضاء الدمع 

في لغتي وتكويني

 أعشقك فأشرب نخبا في صباحك 

والمساء

تستوحشُ حروفي بعدك

ويتوه مني الادمان 

اذا غادرت دمي 

انت التوهج وانت ملاذي

فريضة عشقي وسكني أنت

كيف أختزل الشوق في عينيك

حين تراني وأراك  في ظلمة 

ليالي الغربة 

أنت وحدك معي 

متكئ أسند عليك 

أوجاعي 

كل مساء أبوح بما يعتمل

في خلاجات روحي 

تربت على قلبي 

فيشعر بدفء لصوتك

لحواس اناملك في السحرُ

لأنك في أعماقي تسكن

جمرة اشواقي أنت

وحلمي الأكبر 

 بداية دروبي ونهاياتها أنت 

وهذا قلبي يناجيك يا وطني

الابهى

شعري يرنو لنجمة 

 في سماء مغربك 

تزينه حركات تهفو وتنادي 

يا عراق يا مِصْرُ يا شَامُ 

يا تاجي وأوسمتي

بلادي المجد أوطاني 

تونس يا حاضرة الروح 

ويا بوح الخاطر 

تعبت أبحث عن تفاصيلك 

تعبت اسأل زوايا البيت

عنك وعن أحلامك 

متى يفك أسري الليل 

متى  أقطف ثمار الحب 

وافض غيم الحزن وانثر 

حنيـن شوقي بدارك 

(الأدبيه التونسية  د-آمال بوحرب)


لعبت تيمة الوطن دورًا في تشكيل الشعرية التونسية،وأحدثت بين الشّاعر والوطن تبادلًا وتكاملًاوتماهيًا،نشأت عنه معادلة هي نفسها العلاقة التي لا انفصام فيها بين الإنسان وروحه، عبّرت عن تلك الرّغبة الكامنة في عمق الإنسان الّذي يظلّ دائمًا مولعًا باكتشاف الوطن في ذاته ورؤية نفسه في تجليات الوطن من حوله،وهو شكل التماهي الوجودي الذي يعكس علاقة الإنسان بالوجود،ويصبح هذا التماهي مضاعفًا حين يجلّيه الشعر الذي هو وجود الشاعر،فيوقفنا الشعراء عند المثلث الذي لا انفصام لأحد أضلاعه عن الآخر والمتمثلة في الشاعر والشعر والوطن.

ومن هنا،فالشعر هو السكون الروحي وهو كذلك الجنون الماسوشي،إنه رحلة نحو الحقيقة التي لا تكشف عن قناعها أبدا غير أنها تُظهر بعض ملامحها في صورة شعرية حالمة أو جملة شعرية خاطفة.وفي قصيدة "يا تونس الأحداق " للشاعرة والأديبة التونسية د-آمال بوحرب   سيجد المتلقي من الشعر روحه ومن الموهبة أصالتها ومن الجمال سرّه الخفي..

التجربة الشعرية للشاعرة التونسية المتمرسة-د-آمال بوحرب-غنية وحافلة بالعطاء الإبداعي والتنوع الموضوعاتي،كتبت عن الوطن (تونس) وعن الوَجد والحب بأبعاده الإنسانية والحياة والوجدان والقصيدة..ولكن قبل أن يخوض المرء في الحديث عن صورة الوطن في شعر د-آمال بوحرب-يجدر به أن يحدد تعريفاً لهذه المفردة التي لم تكن ذات حضور كبير في الشعر العالمي،والشعر العربي(1) كذلك.ويبدو أن بروزها أخذ يطفو على السطح،ضمن فهم جديد،في مرحلة نشوء الدول ذات الكيان السياسي المحدد جغرافياً.«والوطن بالمعنى العام منزل الاقامة،والوطن الأصلي هو المكان الذي ولد به الانسان،أو نشأ فيه.

والوطن بالمعنى الخاص هو البيئة الروحية التي تتجه اليها عواطف الانسان القومية.ويتميز الوطن عن الأمة (Nation) والدولة (Etat)بعامل وجداني خاص،وهو الارتباط بالأرض وتقديسها،لإشتمالها على قبور الأجداد»(2).ونقرأ في المعجم الفلسفي المختصر،تحت مفردة «الوطنية»،ما يلي :«مبدأ يعبر عن حب المرء لوطنه وعن استعداده لخدمة مصالحه.انها انشداد المرء الطبيعي نحو مسقط رأسه،نحو اللغة الأم والتقاليد الوطنية،واهتمامه بمصير البلاد التي ترتبط حياته كلها بها». 

ونقرأ أيضا : « ولكن المشاعر الوطنية لا تأتي عن أسباب غيبية،من «صوت الدم»أو «العرق» كما يزعم المنظرون البرجوازيون.فهي تظهر تاريخاً،بتأثير ظروف حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية،ولذا فان مضمونها يتغير تبعاً لتغير تلك الظروف” وتحضر تيمة الوطن في قصيدة يا تونس..الأحداق للشاعرة التونسية المتميزة -د-آمال بوحرب موضوع الدراسة،بشكل قوي ومهيمن،حيث تحتفي فيه الشاعرة بوطنها تونس،وتجعله في قلب الشعر والخيال والتفكير وفي قلب الأحداث،هو المحور المركزي وفي فضائه الأنا والجماعة روحا وجسدا. 

“يا تونس الوله الجميل

 إني سابحة في مقل الشوق

رفعت في بحر عينيك  أشرعتي 

غصت حتى  أضاء الدمع 

في لغتي وتكويني

 أعشقك فأشرب نخبا في صباحك 

والمساء

تستوحشُ حروفي بعدك

ويتوه مني الادمان 

اذا غادرت دمي.."

ما يميز أسلوب ولغة الشاعرة/الأديبة د-آمال بوحرب،لغتها "الجبرانية"،وثقافتها الواسعة العميقة،هذا الأمر يتجلى في شعرها ونثرها ودراساتها الفكرية،كذلك هي تفلح في احداث صداع إيجابي للقارئ،مصحوب بعصف ذهني،يحتم على القارئ طرح الأسئلة العميقة والهامة والتي تتفاعل بقوة مع النص،تترك طعم النص تحت حافة اللسان لفترة طويلة..

وهي يستخدم مخزونها الثقافي الواسع والمتشعب الذي يرتوي من الحضارة الإسلامية ومن حضارات المعمورة على مر العصور وتستند على القيم الإنسانية الخالدة التي لا تقبل المساومة أو التبديل،وما يلفت النظر في جل قصائد-د آمال-اللغة الشعرية الراقية والمميزة، "د-آمال"لا تكرر كلمات الغير ولا تستعير عذب الشعر من فحول الشعراء،بل تجتهد حين تغزل لنا الجمل والصور الشعرية المبتكرة والجديدة،ومن هنا،فلغتها أقرب الى لغة الشاعر الكبير "جبران خليل جبران"،حيث تتوافق الصور الشعرية مع الفلسفة العميقة،ونصرة المظلوم والدعوة الى السلام والحق والطهارة والصدق.

وحينما قرأت هذا النص توقفت عند عتباته المهمة من حيث التشكيل في الصورة والسينوغرافيا والألوان واللغة والمشاعر من جهة،والابداع والتألق والانطلاق في عالم كتابة الشعر..لغة الشاعرة التونسية اللامعة-د-آمال بوحرب-تتميز بالدلالات المتغيرة (غير ثابته) لوصف الصورة التي تتشابك في ذهنها وخيالها،وتعصف لنا صورا شعرية متحركة..لأن الصورة الشعرية وبحجم الشاعرية التي تحملها تكون جوهراً للشعر،كما هي روح القصيدة التي تمتد من أول عتبة الى آخر عتبة لتثبت للقارئ الصلة بين الواقع والتأثير المهم جداً،لذلك تأتي الصور قوية ! كل مفردة لها خصوصية في حواس القارئ وشعوره،لأن فن الصورة مرتبط بمفهوم الفن لدى الشاعرة -د-آمال بوحرب-والناقد بطبيعة الحال يبحث عن الجمالي في الصورة وعن التجربة الفنية والحالة النفسية للشاعر..وأيضا يبحث الناقد في مستويات الشاعر المتميز من حيث كيفية تجدد الصورة ونشأتها في فكره وخياله وعكسها للقاريء لأن الحواس وحدها غير كافية بتوصيل ما نصبو اليه،بالاضافة الى بحثه عن الانزياح اللغوي وتحديث اللغة عند الشاعر،وبين الذاتية والموضوعية نتوقف كثيرا،لأن حجم الشاعرية والانزياح اللغوي،وتشكيل الصورة الجديدة،وسعة الخيال والمخيلة وسائل نكتشف بها معايير مهمة لجمالية الصورة الشعرية عند اي شاعر،وهي بصراحة مفاتيح للناقد مهمة لتفكيك أي نص شعري،حتى نصل الى جوهر النص وجمالياته الفنية..

إن النظر للقصيدة (يا تونس الأحداق )كوحدة كاملة يعني أن لها منطقا خاصا تقوم عليه وتنهض به فعلها الإبداعي،والقصيدة-هنا-هي صورة الشعر العليا لأنها تعبر عن أعلى حالاته وتطلعنا على روح الشاعرة ومواقفها وخلجات نفسها ونماء فكرها..كما تعكس إيماءات المكان والزمان والأحداث.

إن هذه القصيدة ليست لحظة شعرية وحسب،بل لحظة تاريخية تختزن في أعماقها مخزونا حديثا هائلا من مجريات الحياة،وهذا زاد من تألقها الشعري ومن دلالاتها انصهار الشاعرة د-آمال بوحرب انصهارا كليا مع الوطن.(تونس)

ورفع ذلك الانصهار درجة الانفعال اللازمة للشعر.وقد أشار حازم القرطاجني*إلي ذلك بقوله: "إن الشاعر يحدث الانفعال ويؤثر"وهذه السمة من أولى عناصر القول الشعري،فالقارئ حاضر في ذهن الشاعرة د-آمال واضعة له حسابا يسهمه في الإحساس بالانفعال،وهكذا تبدو القصيدة صورة متحركة بين ذات الشاعرة والوطن،وبين ذات الشاعرة والقارئ.

 الشاعرة التونسية-د-آمال بوحرب-لم تأتي بالصدفة أبدا،إنما هي ثمار تجارب عديدة حاولت أن تمزقها لكنها كانت قوية من الداخل،حيث تمتلك الذائقة الشعرية لتبوح نتتكلم وتصرخ،لها الشغف الكبير والمعرفة في حب الوطن،لذلك جعلت اهتمامها في الشعر في قلب اهتماماتها،وجعله صوتها المنحدر من أي مكان يسكنها صوب الوطن..وليس رجع صدى.

الصوت والكلمة والطاقة التي يمتلكها الشاعر ضمان كبير في تركيبة الصورة وانعكاسا لحياته، وبنفس الوقت انعكاس لمفهوم المكان-الوطن -لأن الزمان ماعاد يشكل شيئاً الآن ..فالذاكرة تعتمد المكان أولا ًثم تخوض في الأزمنة لاحقاً لتثبت من قبل الأسماء كدلالات معروفة للقاصي والداني،ومن اهتم بشأن الادب والتاريخ.

وهذا التقابل الفني بين واقع الشعر المعيش وبين ركام التاريخ يؤسس لوعي ولاحساس الشاعر في فكره ووجدانه بحب الوطن ومتابعة معاناة الناس.. 

نص شعري تتدفق منه مشاعر خليطة من قوتين أساسيتين هما الفكر الانساني الذي تحمله الشاعرة،ونبضات قلب حساس رهيف شفاف،يشكلان قوة نابضة في دعائم النص،وهما في نفس الوقت الجسر الذي تعبر به الشاعرة-د-آمال-إلى الإنسان القاريء وبالتالي تضيف تفاعلاً عضوياً في المجتمع،وبالمحصلة يتحول النص الى ثمرة جميلة فيها من التكامل الروحي والانساني..وتسكن في مخيلة القارئ ويتدفأ بها وبأحضانها ! كعاشقة،كحبيبة

كمعشوقة،كمعشوق !" أنت التوهج وانت ملاذي/فريضة عشقي وسكني انت/كيف أختزل الشوق في عينيك/حين تراني وأراك  في ظلمة /ليالي الغربة /أنت وحدك معي /متكئ أسند عليك..أوجاعي"  فالنص يسري على المذكر والمؤنث بنفس التوجهات،لأن الجميع يعيش داخل الاسوار..أسوار حب الوطن (تونس)..وأنا هنا بصراحة لا اتساهل في مسؤولية الكتابة النقدية من حيث المحاباة في الاصدقاء،كوني ولسبب بسيط لا أعرف الشاعرة-د-آمال بوحرب-عن قرب أبدا..إنما أعرفها عن بعد لمتابعتي أعمالها الشعرية وما تكتب بالفن والأدب وهذا من تخصصي انا ! وقد استحوذ علي هذا النص لأن أسجل له ما يستحق من حق واستحقاق وكنشاط ابداعي له ولتجربتها الشعرية وفي قصائدها المتعددة وهي إبنة تونس-مهد الثورات العربية-ابنة الشعر وابنة السرد والحكايا ومكامن الوعي الجمالي في العلاقة بين السحر في اللغة والشعر وما بينهما من انتاج للوعي المتجدد في فضاء وروح الشاعرة السائرة على درب العالمية بخطى ثابتة..

قبعتي..يا د-آمال بوحرب.


محمد المحسن


المراجع: 

1-لم تتكرر كلمة وطن كثيراً في الشعر العربي.وفي لسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور،وهو معجم لغوي علمي قدم له الشيخ عبد الله العلايلي وأعده وصنفه يوسف خياط ونديم مرعشلي.ورد التعريف التالي لمفردة وطن : موطن: اقليم يتسم بخصائص طبيعية تلائم أحياء معينة.بيئة: مكان له ظروف خاصة يستوطنه بعض الأحياء مثل ساحل البحر والغابة والمستنقع. الموطن الأصغر: هو الموطن البيئي الخاص الذي يعيش فيه كائن ما. موطن الأصل : موطن الشخص عند ميلاده. 

2- انظر:جميل صليبا،المعجم الفلسفي،بيروت 1982. ج2 ص 580.

*حازم القرطاجني :هو أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم القرطاجني كان شاعرًا وأديبًا أخذ عن أبي علي الشلوبين وعنه أخذ جماعة منهم العبدري.قدم إلى تونس (مدينة) ومدح السلطان الحفصي أبي عبد الله محمد المستنصر،وأشهر قصائده له القصيدة الطائية.له تآليف منها: منهاج البلغاء وسراج الأدباء في البلاغة.كان من أهل قرطاجنة (شرق الأندلس) تعلم بها وبمرسية وأخذ عن علماء غرناطة وأشبيلية،وتتلمذ لـ أبي علي الشلوبينثم هاجر إلى مراكش، ومنها إلى تونس فأشتهر وعمر،وتوفي بها عام 684 هـ\1284م.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق