؛؛؛ قصة قصيرة؛؛؛
.... رغم أني أحب الحياة
جلست في زاوية شرفتي اترشف قهوة المساء وأتأمل الليل القادم على مهل يتبختر في حلة من الألوان الزاهية بين أصفر يلفظ أنفاسه الأخيرة وبرتقالي مزهو بلمعانه الأخاذ يحاول أن يتحدى الباذنجاني الذي لفه قبل أن بتحول بدوره إلى سواد حالك بدأت يد الدجى تطرزه بنجوم متلألأة تسر الناظرين ...
بعضها جميل وأغلبها حزين..
لكنها كانت جزء من وجودي من واقعي ومن حلمي .... أعجز عن استعادتها ... ويستحيل نسيانها على قلبي وتفكيري وكل مشاعري فهي ليست مجرد ذكريات بل اجمل واغلى الأمنيات التي لم تتحقق يوما .. ومازال أملي منها لم ينقطع..
نهضت متثاقلة بعد أن قرصتني نسمات باردة وكأنها تطردني من الشرفة وتصدر حكمها بأن أدخل إلى غرفتي وأغلق الباب فلا خيار لي أمام برودة الطقس ...
بسرعة ودون مقدمات انخرطت في نوم عميق مسترسل هادئ بلا أحلام ولا حتى كوابيس بلا تقلبات ولا استيقاظ مفاجئ كان أشبه بالموت لولا أني سمعت زقزقة العصافير وأيقنت أنه الصباح فأفقت وقد ذهب عني تعب الأمس والإرهاق الذي أصابني طيلة الأيام الثلاث التي مضت ولم أذق فيها طعم النوم والراحة ..
كانت ثلاث أيام من الجحيم ... خوف..قلق..انتظار... أسوأ مشاعر يمكن أن يمر بها الإنسان.. مشاعر فتاكة قادرة على تدمير نفسية أقوى الأقوياء.
ما حدث معي هو أنني كنت أتسوق في المركز التجاري القريب من بيتي وطبعا لم أكن بمفردي كانت معي صديقتي وزميلتي في العمل ...
كنا نتبضع ونتحدث ونضحك معا حينما سقطت على الأرض ولا أعرف ما حدث بعدها ...
افقت في اليوم الثاني فوجدتني في المستشفى ممرضات وأطباء ومرضى معي في نفس الغرفة ... استغربت ولم أفهم خاصة عندما لمحت بعض أفراد عائلتي خارجا ..
بعد ساعة من استيقاظي جاء الطبيب وهو يصطنع ابتسامة كان واضحا جدا أنها مجاملة تخفي الكثير...
"صباح الخير، كيف حال جميلتنا اليوم؟ اووه ماشاء الله انت بصحة جيدة ، لا شيء اطلاقا يدعو للخوف
فأنت قوية كما يبدو والمرض ينهزم أمامك هههه "
تلك الضحكة المصطنعة مع ذلك الإحساس الذي شعرت به في جسمي و تلك الأوجاع الغريبة في رأسي عندما حاولت رفعه والنهوض... كل ذلك جعلني أفهم أن وضعي ليس بخير ..
لم أستطع النهوض تماما فبقيت مستلقية أسند ظهري إلى المخدات وأشعر بثقل في رأسي .. ولكني لم اتكلم ولم أسأل الطبيب عن شيء.
أكمل جولته وتحدث همسا مع الممرضة ثم غادر الغرفة..
جاءت الممرضة وقامت بما يلزم لتسحب ما يكفيها من دمي لإجراء الفحوصات والاختبارات الاّزمة كما قالت ثم تمنت لي الشفاء العاجل
وغادرت وكان في نظراتها أسف كبير ...
ما ان غادرت الممرضة حتى دخل أفراد عائلتي المتواجدين في الخارج .. قاموا بواجبهم في الاطمئنان علي ثم تمنوا لي الشفاء وانصرفو إلى أشغالهم وحياتهم..
تأملت السقف هنيهة ثم ذهبت في غفوة قصيرة فقد نغص نومي ذاك الوجع الرهيب في رأسي الذي لم أفهمه ولم أعرف له وصفا ...
في اليوم الثالث استيقظت باكرا فقد سمعتهم بالأمس يتحدثون عن نتائج الفحوصات التي ستظهر اليوم
وستحدد الحالة ..
كنت قلقة جدا اريد أن أفهم ما ألم بي وهل وضعي خطير ام أنه مجرد تعب عارض كما كانوا يقولون لي ...
جاءت الممرضة لتطمئن على وضعي فسألتها ان كانت نتائج الفحوصات قد جهزت فقالت لا بد أن ننتظر بضع ساعات وسيكون خيرا ان شاء الله...
مرت الساعات ثقيلة على قلبي
وذهبت بي الهواجس أيما مذهب
وخيلت لي كل الفرضيات السيئة وما يمكن أن يحدث لي ... كانت مشاعري مضطربة خوف وحيرة وقلق مما زاد نفسيتي تدهورا
وعكّر صحتي ..
بعد وقت ممل طويل أقبلت الممرضة بخطى متثاقلة أخبرتني انه يمكنني الخروج من المستشفى والعودة إلى البيت ، قالت أن نتائج الفحوصات جاهزة وان الطبيب ينتظرني في مكتبه ليشرح لي الوضع ..
دخلت إحدى قريباتي ساعدتني على ارتداء ملابسي وأوصلتني إلى مكتب الطبيب ...
نظر الي وأشاح بنظره عني بسرعة
كان يتحدث ولكنه لم يستطع أن ينظر في عيني ... "سيدتي ان كل فحوصاتك أثبتت أنك تعانين من ورم خبيث في الدماغ وهو في مرحلة متأخرة ... يمكننا إجراء عملية مستعجلة ولكن نسبة نجاحها ضعيفة جدا والقرار لك سيدتي ."
"شكرا لك دكتور، سأعلمك بقراري لاحقا" رفع رأسه وهو يستغرب ذاك الثبات والهدوء في ردة فعلي ...
تركته في ذهوله وخرجت .. أقلتني قريبتي إلى بيتي وغادرت.
كان المساء قد حل عندما اخذت حماما ساخنا وجهزت قهوتي...
... وها أنا اليوم أستيقظ بكامل نشاطي وحبي للحياة ..
قررت .. نعم قررت أن أعيش حياتي
وأستغل كل ثانية من الفترة المتبقية في أن أكون سعيدة مبتسمة ...
لن أخضع لأي جراحة ... سأعتني بنفسي وأعيش العمر الذي كتبه الله لي ... فالأعمار بيد الله ...
هكذا كان يقرأ مذكراتها والدموع تنهمر من عينيه كالمطر...
ترى هل هي دموع الندم لانه هجرها في أيامها الأخيرة؟؟؟
أم هي دموع الشوق لغائب لن يعود أبدا للحضور؟؟؟
بهيجة بن موسى/تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق