المعلّم الصغير :
_ منذ مدّة طويلة،عمره يقل عن العشرين حينما استدعي من قبل قسم الموظفين فأخبِرَ بأنه فاز في المسابقة،ويمكن توظيفه معلّما،غير أن الإدارة كانت تجهل نجاحه في الأهلية ،فأخبرها بكل اعتزاز مبتسما ابتسامة الانتصار على نجاحه وعلى استغرابه لكونهم يجهلون ذلك الحدث العظيم في حياته،الذي سيغيّر الكثير من الأمور في حياته ويرسم له اتجاها آخر بلا شك سيكون حتما أحسن،وهل ينتظر كل هذا الوقت صوما ويأكل جرادة ! مثلما يقول المثل.
_ماينتظره أعظم وأكبر،هذا إحساسه، في مكتب الموظفين، ونظرا لحاجتهم للمعلمين قدّمت له ورقة وقلم ليكتب الطلب في الحين، ثم رجع للبيت سيرا على الاقدام مارا بشارع ديدوش مراد ثم حسيبة بن بوعلي قاصدا حي محي الدين،أقدامه هي سيارته يجدالراحة النفسية في السير ،يرى ويطلع على كل شيء،ويتوقف أينما أراد ،لكن في الحافلة يختنق ولايجد حفنة أكسجين لرئتيه ويتهرّب كذلك من رائحة بعض الناس،رائحة العرق يالطيف،ويستدير ويهرب بأنفه ومع ذلك يبتلع الرائحة مرغما، وخاصة في ذلك اليوم من ايام الصيف، ومن ذلك اليوم كره كل وسائل المواصلات التي تذكّره بالحافلة وبتكديس الناس فوق بعضهم البعض ،لا تجد أين تضع رجليك ،رجل واحدة ربما ممكن،لكن تبقى بدون حركة ولا التفاتة فأنت مسمّر أوداخل علبة قيست على جسمك.
_ دخل البيت وأخبر أمّه بأمر التوظيف ففرحت بولدهاقائلة( زعم أنت تولي معلم وجيبنا الدراهم، إن شاء الله يابني) وبعد أسبوع بالضبط جاءه التعيين وعين في مدرسة ابتدائية قريبة والحمدلله لا يحتاج لوسيلة مواصلات ،نهض باكرا في ذلك اليوم ،سيصبح معلّما مثل أبيه وكأن المهنة فيها جينات وراثية،قصد المدرسة فرحب به المدير وأسند إليه قسم الرابعة ابتدائي، دخل القسم،قال المدير هذا هو معلمكم الجديد، ثم انصرف وتركه وحده فرأى الابتسامة علت وجوه جمهوره ،لكن لم يستطع فرزها هل تدلّ على الترحاب أم على غنيمة وقعت بين أيديهم للتسليّة واللهو،كانوا كبار الأجسام ليسوا أبدا مثل تلاميذ اليوم ، إنهم رجال ،ينظرون إليه بتعجب ! ممكن لأنه صغير السن والجسم معا ،ربما يريدون معلما طويلا حتى يهابونه ويخافون صفعته لأنه يتمتع بيد طويلة وعريضة،أما يده هو فهي أقرب ليد الدمية
_ ماذا يقول !ومن أين يبدأ !
،وبدأ التلاميذ في الفوضى والصياح ،حتى أزعجوا معلم القسم المجاور الذي جاء إليه مرحبا وتوعد بعض الشياطين بالعقاب كان يعرفهم بأسمائهم ،نظر إليهم نظرة عُقاب للدجاجة حينما يريد اختطافها وهنا عاد الهدوء ورجعت الطمأنينة لنفسه،وقبل مجئ المعلم لمساعدته وإسكات التلاميذ، تذكر لقد قيل له تصنّع الغضب واضرب على الطاولة بقوة ولا تبتسم ،إنه يوم الامتحان إما أن تنجح وتعمل طيلة العام مرتاحا وإما أن تشقى كان يفكر في الاستقالة،وبدأ يتلاشى حماسه بحصوله على الوظيفة ،كيف يفعل مع التلاميذ !وماذا يقدم لهم ! قبل مجيئه كان يسمع بالبرنامج لعل المدير يفيده ولا يتركه هائما،وشيئا فشيئا بدأ يعرف البرنامج ومعاملة التلاميذ وهذا من خلال أصدقائه المعلمين ،بدأ يكسب ود التلاميذ حيث عين واحدا للحراسة وآخر لتنظيف السبورة وآخر لتوزيع كراريس القسم وجمعها وآخر لمكتبة القسم وفوض الأمر إليهم،هؤلاء الأربعة أصبحوا مدافعين عنه ويقومون بضبط القسم،وبعد مدة قصيرة أصبح سيّد الموقف،ورضي عنه الأولياء والمدير وكسب ود كل المعلمين .
_كان يستفسر زملاءه في كيفية التحضير للدرس، وإنجاز المذكرة،وكان يملأ السبورة بمادة الإنشاء كتلخيص للدرس ويخاف من الأخطاء النحوية، فكان يستوقف زميله راجيا منه تصحيح الأخطاء إن وجدت،ويطير من الفرحة إن وجدت أخطاء تصحّح فورا ويسأل عن التفسير النحوي والقاعدة .
_وهكذا بدأ يملك الثروه والرصيد اللغوي،وكل الأمور النحوية أو المنهجية يستفسر دائما،وخاصة إذا تعلق الأمر بالإعراب، يبعث قصاصة مع تلميذ للمعلم المجاور في القسم،ويأتيه الجواب وكان دائما يتذكر ذلك العبقري والنابغة في اللغة هو بمثابة الشيخ الابراهيمي في إتقان اللغة أوعميد الأدب طه حسين أو العقاد رغم أنه يحمل شهادة الأهلية مثله فقط،كانواعلماء بدون شهادة وبدون دخول الجامعة،جيل آخر بفكر آخر كلّهم عصاميون لكن يطالعون كثيرا، كان عصر المطالعة بامتياز،نشتري الكتب ،ونتبادل كل مانقرأه بكتب أخرى من الزملاء،وفيه إعارة الكتب الخارجية من المكتبات ،أما المجلات فكانت متوفرة بكثرة تلبي كل الأذواق، ،بالإضافة إلى كتب التربية وعلم النفس،والدروس المسائية للمعلمين وللطلبة ولكل من يرغب في إكمال تعليمه والتحضير للامتحانات ،فكان المعلّم يعلّم ويتعلّم لتحسين مستواه الثقافي والمهني وكان الإقبال كبيرا وبعزيمة فريدة من نوعها، وكان المعلم الصغير من هؤلاء عندما يخرج مساء من التدريس يتوجه مباشرة للدروس المسائية ماشيا وكانت المسافة حوالي أربعة كيلومتر،ويعود في الليل، وحتى التلاميذ كانوا يطالعون يأخذون كل اسبوع كتبا يطالعونها في المنزل وينتجون خلاصة للمقروء وتلخيص الكتاب ، وكانوا يقدمون مبلغا رمزيا لذلك، وكانوا هم الذين يسيرون المكتبة المدرسية ولا يتدخل لا المعلم ولا المدير .
_لقد تعلم شيئا في التعليم وهو أن النجاح مرتبط أكثر بحب العمل والأطفال، أكثر من ارتباطه بالشهادة،وتعلم أيضا أن التعليم يتطلب تجديد الأفكار والتكوين المستمر وتغيير طرائق وأساليب التدريس، باستمرار،والمعلم ينبغي أن يساير الأحداث والمستجدات،كما تعلم أن علم النفس ضروري بل إجباري للمعلم لفهم المتعلم ومسايرته وتكييف المعرفة حسب ميول المتعلم ورغباته، ومعرفة فن التواصل ولن يكون ذلك إلا بعلم النفس، وأن التعليم لا يعطى لكل المعلمين،إنه فن وموهبة،لذلك لا ينجح كل المعلمين في التدريس ولو كانوا يحملون نفس الشهادة وأسند لهم نفس الأقسام،يبقى دائما هناك سرّ غامض! تلاميذ يفهمون لمعلم ويحبونه ويفضلونه ولا يفهمون لآخر،ويهربون ويتغيبون في وقت تدريسه،تلاميذ ضعاف في الرياضيات ولا يفهمونها وعندما جاء معلم آخر فهموا الرياضيات وأحبوها وبرعوا فيها وتحصلوا على نقاط مشجعة لم تكن في الحسبان.
_إن المعلم الصغير مازال يتذكر ذلك اليوم العظيم ،يوم قبض المال والأجرة الشهرية ، جاءه إشعار،حوالة بريدية بمبلغ مالي كبير في ذلك الوقت ،هي تسبيق للشهور الماضية ، وعادة ماكان المبلغ الأول يدفع حوالة بريدية ثم يكون الراتب عبر الحساب البريدي. في ذلك اليوم نهض باكرا ومع موعد فتح باب مكتب البريد ،دخل هو وأبوه وفي يده قسيمة الحوالة وبطاقة التعريف ،تقدم للشباك ،هاهي الأوراق المالية من فئة مئة دينار، واحد،إثنان، ثلاثة،،،،،،،الله يبارك الله يبارك والحمدلله والشكر إليه ،طار فرحا وفي الطريق اشترى ما يحتاجونه وخاصة لحم الخروف ودجاجة كبيرة خلي العائلة تأكل اللحم طيلة العام محرومون،والآن اسرتي تأكل ،أما الأم فسبقت وفتحت الباب قبل وصوله لقد أحست بخطوات ولدها وزوجها على السلالم ،هي فرحانة ويظهر ذلك من خلال بريق عينيها ووجهها الذي يشع بهجة وسرورا،ها قلت: (زعم ولدي يرجع معلم ويجيب الدراهم ) هاهو المبلغ في جيب أبي اعطوني فقط قدر ما اشتري سروالا وحذاء والباقي تصرفوا فيه.
_الجيل السابق عمل وتعب وكان الشاب يعتمد على نفسه ويبحث عن العمل لا يترك أسرته تعطيه مصروف الجيب مثلما هو حاصل الآن،شاب الجيل السابق لم يكن مدللا ،كان ذو عزيمة قوية جاد يحترم والديه ويعمل أي عمل يعرض عليه المهم يساهم في الكسب ويساعد أسرته ويتهيأ للزواج وبناء بيت.
_يريد الاستقلال وعدم التبعية وتحمل المسؤولية مبكرا ،مثل المعلم الصغير دخل للتعليم وسنه لم يصل العشرين مثل شاب الآن في الثانوية، شاب كسول الذي ينهض ولا يرتب فراشه وتقبَلُ منه أمّه ذلك ،وتقوم مقامه في العمل وتعطيه مصروف الجيب لذلك اليوم وبعيدة عنه تماما فكرة مساعدة الاسرة،يهتم بتسريحة شعره ولباسه،لقد فهم الأولياء سابقا الحياة جيدا وتمرسوا وتعذبوا لذلك أولياء زمان يعدون الأولاد والبنات للحياة التي تنتظرهم فيدربونهم على العمل في البيت ومرافقة الأم ،وكذلك العمل خارج البيت.
_إنها حياة أخرى بجيل آخر وأفكار مغايرة،جيل تعلم بأن دخول الحياة والنجاح فيها لا يكون إلا بيد مضرّجة بدم، وبسواعد قويت وأصبحت مفتولة بالعمل،وأن باب المستقبل لا يفتح أبدا بابتسامة متواكل بل بصيحة رجل يملك بيده مفاتيح الحياة،فتعانقه مرحبة ببطلها الذي نجح واستطاع أن يمسك حلمه الهارب، وهكذا تبتسم الحياة لبطلها وتعلو زغرودة الاستقرار والزواج.
الكاتب الجزائري: عبد العزيز عميمر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق