حبل الوصال 20
هدأت الأجواء قليلا في المقهى .وهدأت وتيرة الكلام بين الأخوين وصديقهما وأصبحوا يتحدّثون عن موعد القضيّة والشّهود...يدخل المحامي إلى المقهى بعد أن ترك أخته في حيرة من أمرها.، لم ينتبه إلى أحمد ومرافقيه فجلس في ناحية منزوية نسبيّا حتّى يفكّر برويّة ويبتعد عن ازعاج النّاس لتفكيره. اثناء ذلك يدخل أصحاب احمد الآخرون ويتّجهون رأسا حيث أحمد والبقيّة وبعد التّحيّة طلبوا من النّادل مشروبات فذهب ليجلبها لهم عند ذلك قال لهم صديقهم الّذي دخل قبلهم " اراكم لم تستغربوا من جلوس النّادل معنا ومشاركتنا الحديث " فأجاب أحدهم " انا لا أستغرب أبدا فهو صديقنا منذ زمن طويل ثمّ إنّه كان دائما مقرّبا من احمد فلا استغرب أن يكون من أحد أقربائه الذّين نبحث عنهم ههههه" فضحك الأصدقاء كلّهم لكن لكلّ واحد منهم سببا. فأحمد وصديقه الأوّل يضحكان لتخمينات صديقهم الصّائبة أو ربّما لفطنته أمّا البقيّة فضحكوا لانّهم اعتبروا كلام صديقهم- وهو معهم - نكتة. يعود النّادل ومعه المشروبات وبعد إعطائهم إيّاها جلس في مقعده . فقال له أحد الأصدقاء: " كنّا نضحك لأنّ صديقنا اعتبرك أحد أقرباء أحمد ونحن نبحث عنهم من خلال الهاتف ومن خلال أناس يسكنون في مناطقهم في حين أنّك قريب " وعاودوا الضّحك وأحمد معهم فضحك النّادل وأحمد وصديقهم الأول فرحا واحساسا ببداية عودة السّعادة في صفّ الأصدقاء في حين ضحك البقيّة لأنّهم مازالوا ينكّتون.. و تعود الجدّية إلى الجلسة بتدخّل أحد الأصدقاء قائلا أنّه اتّصل بثلاث أشخاص بعد أن تحصّل على أرقام هواتفهم من حلاّق لا تفوته معلومة في المدينة أوّلا لأنّه يمتهن الحلاقة منذ صغره وفي نفس قاعة الحلاقة وثانيا كلّ حرفائه الذين يأتون من الرّيف أو من المدينة هم كهول أو كبار في السنّ وبالتّالي يتحدّث معهم في كلّ شيء. وأضاف أنّ واحدا من هؤلاء الأشخاص يسكن في حيٍ قريب من المقهى . في حين قال أنّ الشّخصين الآخرين يسكنان في أحواز المدينة ، ولكنّ ثلاثتهم من روّاد نفس المقهى الّتي يرتادها الأصدقاء. هذا الخبر فتح شهيّة الأصدقاء الأخرين كي يتحدّثوا عمّا وصلوا إليه من أخبار أو من اتصالات. فتبيّن بعد ذلك أنّهم قاموا بأكثر ممّا هو مطلوب منهم بحيث يمكنهم منذ الآن رفع القضيّة واعتبار الحكم لصالحهم مبدئيّا وهذا من جهة لأنّهم توصّلوا إلى جلّ الأشخاص المطلوبين كشاهدين وحتّى الّذين لم يتحصّلوا عليهم فقد تركوا لهم إعلاما لدى أناس يعرفونهم أو في دكاكين أو مقاهي يتعاملون يرتادونها. وعلى حين غرّة انتبه أحد الاصدقاء لوجود المحامي في المقهى فأشاروا لأحمد بأن يطلعه على كلّ ما وصلوا إليه. وفعلا هذا ما فعله حتّى أنّ المحامي استغرب لسرعة تحرّك أحمد وأصدقائه ، لكنّ أحمد لم يترك استغراب المحامي يمرّ دون ان يعلّق بأنّ طلب الحقّ والإحساس بضرورة ذلك هو المحرّك " فما ضاع حقّ وراءه طالب" كانت هذه الجملة صادمة للمحامي لأنّه اعتبرها ردّة فعل من أحمد على ما يكون قد عرفه على اخوته وقد يعتمدها لمساومته أو ورقة ضغط ضدّه خاصّة في موضوعه مع زينب. فردّ قائلا : " لم تكن هذه انتظاراتي من شخص توسّمت فيه الطّيبة والرّسانة والعقلانيّة" اضطرب أحمد من كلام المحامي فهو إن فهمه فإنّه لم يفهم غايته. فقال " اعذرني استاذي الكريم ، هل معنى كلامك أنّني يجب أن أتنازل عن حقوقي ومطالبي؟ " فيجيبه المحامي: " لا يا سيّد احمد ولكن لا يجب أن تبتزّ النّاس لتتحصّل على حقوقك أو ما تطلبه منهم" كان أحد أصدقاء أحمد قد استرق السّمع في جلّ ما دار بين المحامي وأحمد فتدخّل قائلا :" استاذ هل تسمح لي بكلمة على انفراد" انتفض أحمد آنذاك فالمحامي لم يفسّر له جملته الأخيرة الّتي أثارت غضبه وأراد أن يواصل حديثه مع المحامي. إلاّ أنّ صديقه أصرّ على طلبه من المحامي فهو يريد أن يتدخّل ليحول دون وقوع مشكلة بين المحامي وأحمد. رضخ أحمد على مضض،فاستفرد الصّديق بالمحامي ليقول له أنّ أحمد ليس له أدنى فكرة حول عائلة زينب وما فعله أبوها وأخويها الأخرين. عندها رجع المحامي لأحمد واعتذر على سوء تواصله معه متعلّلا بصعوبة ما يمرّ به هو وعائلته من جهة وبصعوبة القضيّة الّتي سيرفعها لصالح المدينة كلّها تقريبا ضدّ مجموعة أغلبهم غير معروفين. ولأنّ احمد طيّب فقد فبل اعتذار المحامي بل وقبّله ليبيّن له حسن نواياه . وعاد الاستقرار إلى المجموعة وعبّر لهم المحامي على حسن استعداده للمرافعة لصالحهم في قضيّتهم وأعلمهم أنّه استدعى معه أشهر المحامين ليكونوا عونا له وسندا فقد يخفق في خطوة ما وما لم يبح بها للأصدقاء أنّه قد يأخذه الحنين ففي القضيّة أخويه ومهما يكن من أمر فهما يعنيان له الكثير. وعندما أبلغوه الأصدقاء بما توصّلوا إليه فرح ولم يفرح..فرح لأنّ الشّهود سيسهّلون عليه بعض الأمر أو ربّما جلّه ولم يفرح من جهة أخرى فأخويه سهل أمر إدانتهم.. ورغم ذلك سيقوم المحامي بما يمليه عليه ضميره المهنيّ فهكذا تعوّد أن يتناول قضاياه.
زينب ربّة البيت الصّبورة المتعقّلة، بعد كلام أخيها المحامي معها، مسحت دموعها وأحضرت طعام الغداء ثمّ بدأت تستعدّ نفسيّا لما قد يأتي من أحمد..أخويها..أخوها المحامي..تبادر إلى ذهنها أنّ أحمد بعد أن يعرف ما فعله أخواها وأبوها فقد يقطع علاقته بها رغم حبّه العظيم لها ورغم أنّها كما قال تمثّل حياته وسبب عيشه. لكنّها في داخلها كانت مطمئنة لأنّها عايشته عن قرب وخبرت معدنه وفي نفس الوقت كانت تخاف من تأثير النّاس وخاصّة الّذين تضرّروا من افعال عائلتها بدون اعتبار المحامي الّذي لم تكن له أيّة صلة بأخويه خاصّة فيما تعلّق بأعمالهم خارج البيت. تبادر إلى ذهنها أيضا أنّ أخويها قد يردّان الفعل على تحرّك أحمد فيضرّانه بشكل أو بآخر وهي لا تحتمل النّسيم يحرّك شعرة من أحمد ..وهذا بعث فيها حيرة و خوفا لا يوصفان فالغريق يتعلّق بأيّ شيء وهذا حال أخويها..ثمّ ذهب تفكيرها إلى أخيها المحامي المسكين الّذي وضع بين نيران لم يكن له فيها يد ولا ساق سوى أنّه انتمى إلى مدينة ملغّمة بالأحداث وإلى عائلة " ربّها يضرب الدّفّ فكيف نلوم الصّبية على الرّقص.. " فعلا كان اللّه في عون زينب والمحامي..عاد المحامي بعد مغادرة المقهى وذهنه لم يقف عن التّفكير والبحث عن حلّ يخرجه من ورطة الأخوّة من جهة ودوره كمحام أقسم على أداء واجبه وملازمة الحياد والانحياز إلى المظلوم من جهة ثانية. يدخل المحامي فيجد أخته في المطبخ تقريبا حيث تركها فتقف لتستقبله وكأنّها لم تره منذ سويعة أو أكثر بقليل مرّت. فيقبّل جبينها ويدعو لها بطول العمر. فقالت له " أرى أنّ خروجك قد هدّأ من روعك أو ربّما وصلت إلى حلّ أراح ضميرك" فيجيبها" ليست المشكلة مع ضميري بل مع قلبي وإحساس الاخوّة أكثر من أيّ شيء آخر" فأظهرت زينب رجاحة عقل ورسانة جعلت المحامي يهدأ بعض الشّيء. زينب طرحت على أخيها ان يحاور اخويه في شأن تلك القضايا ويعرف إلى أيّ حدّ هما متورّطان وعلى أثرها يحدّد كيفيّة التّعامل مع تلك القضايا وقد يجد مخرجا قانونيّا يحسم الأمر أو على الأقلّ يجد موقفا يساعدهما على التّخفيف من ضلوعهما في تلك القضايا. ابتسم المحامي وقال لأخته" قد أحتاجك في مرافعاتي المقبلة إذا انتهت قضيّتنا هذه بسلام أو بأخفّ الأضرار"انتظر المحامي عودة احد اخويه من المسجد فهو اصبح لا يضيّع وقت صلاة خارج المسجد بل وأصبح من الزّاهدين وترك " الدّنيا بكلّ ملذّاتها " وهاهو يعود. قبّل اخته من جبينها ودعا لها بطول العمر وطلب منها ان تضع الغداء على الطاولة ولتدعو اخاهما المحامي .جهّزت زينب بما لذّ وطاب من طبيخها الّذي ورثته عن أمّها قبل أن تفارقها وهي شابّة يانعة. بعد تناول الغداء ومع كأس الشّاي طرح موضوع القضايا المنوطة بالأخوين وأبيهما فما كان من الأخ الاكبر إلاّ ان اعترف بكلّ الّذي حضر عليه ،فاتّضح من خلال كلامه أنّ أبيهم هو الفاعل في عدّة قضايا لكنّه كان عبدا مأمورا وهناك عصابات كانت ترغمه على فرض سيطرته على المدينة وقال أنّه يملك أدلّة على ذلك . كان هذا الكلام " بردا وسلاما " على قلبي المحامي وزينب حتّى أنّهما ارتميا في حضن اخيهما وقبّلاه من الفرح. لم ينتظر المحامي عودة أخيه الآخر فهو خارج البلد في سفرة عمل.
رشدي الخميري/جندوبة/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق