قراءة فنية في قصيدة الشاعرة التونسية القديرة فائزة بنمسعود -هذا المطر-
"الجسد مادة أرضية معتمة تتسم بالشهوانية،ولكنه يؤوي روحاً من مادة سماوية نورانية تتسم بالأخلاقية،وبينهما يدور الصراع الأزلي ( فائزة بنمسعود)
*الشعر صنو المعاناة،فهما روحان في جسد واحد،جسد الشاعر الذي يعيش لحظات المعاناة ليعكسها شعراً ينبجس من قلبه ووجدانه.(الكاتب)
للقصيدة حياة وروح من روح شاعر يغوص في عمق محيط ظلامه دامس ليطفو على سطحه ويعانق خيوط الشمس، فبين الظلمة والنور، يتنقل الشاعر بحرفية اللغوي المتمرس والمتمكن من ريشة الرسام البارع، ليُلقي المعنى الحي في روع الصورة ويحدث شرخا بين عالمين يصعب تجاوزه..بين من يكتب الشعر انطلاقا من واقع الخيال، ومن يكتب الشعر انطلاقا من خيال الحقيقة.
للواقع ظلمة وللحقيقة نور يجعل للمعنى تجليات،وللصورة الشعرية حركة وحس على أرض قصيدة تصبح آهلة بأرقى المشاعر وأصدقها تتفاعل وتتأثر في كل من يكون بين يديها،تسكن وجدانه فيشعر بروعة جمال الصورة وعذوبة حلاوة معنى له نماء في عقل وفكر يعزف لحن شاعر تتهادى على إيقاعه قوافل القوافي لتقول لنا هذه أنا.. فائزة بنمسعود شاعرة التحدي والصمود في وجه الليالي العاصفات..والمواجع المبكيات..(رحم الله زوجها رحمة واسعة)
الشاعرة التونسية القديرة فائزة بنمسعود شاعرة معاصرة لها الكثير من الإنتاج الأدبي الموسوم والمميز بنفس الشاعرة وبأسلوبها المختزل المختزن الذي لا يستغرق زمنا طويلا في قراءته،لكنه يحتم على القارئ الوقوف طويلا عند الإبحار في عالمه وخياله ودلالة معانيه،فهو قليل كثير،وسهل ممتنع،يستعصي على غير المكتنزين بذلك المعجم اللفظي والدلالي والأسلوبي للشاعر،فقصيدتها في كثير من الأحيان ومضة بارقة تبعث حكاية البارق النجدي عند الصوفيين في المخيلة حين يمتزجون ويتحدون مع الذات الإلهية وفق تعبيرهم ومعتقدهم.
وتسعى الشاعرة ( فائزة بنمسعود) في بعض قصائدها إلى لغةٍ شفافة تعتمد على الوضوح والواقعيَّة؛فهي لغة تكاد تكون خاصة بالشاعرة،لغة تنطلق من الواقع ومن وعي الشاعرة بأدواتها الفنيَّة،فالنظر في التجربة الشعوريَّة وفَهم الحالة الذهنية لقصيدةٍ ما يتطلَّب القدرة على الانغماس في العالم النفسي للشاعرة واستحضار حالتها النفسية من خلال كتابتها لهذه القصيدة، وفَهمُ الحالة الذهنية تَعني القدرة على استعادة الجوِّ الشعوري ومُعايَشتِه من جديد،ولا يتم ذلك إلا إذا استطاع الناقد أن يُمعِن النظر في الظروف والوقائع التي أدَّت إلى ولادة القصيدة، وبدون ذلك قد تُنزع القصيدة عن سياقها النفسيِّ وتَبقى تراكمًا لغويًّا وشكلاً دون معنى، وتفقد الحسَّ الشعري..
لنستمتع جميعا بهذه القصيدة للشاعرة فائزة بنمسعود تاركا للقارئ الكريم حرية التفاعل والتعليق :
هـــذا المٌــطـــر
وهذا المطر يغسل الذكريات
من فوق رصيف الحياة
هذا المطر يداعب
جفون الأرض
ويعانق اديمها ويمتصّ غضبها والضجر
وقع زخاته ينبش جب أحزاني
ويهتك حياء حكاياتي
المتوارية وراء ستار الوجع
هذا المطر
أودعته ذات موسم هطول حلم
فرح بسيط فحمله ومضى
وتوارى واندثــر
وما زلت على قيد الانتظار
مشتة الشعور والفكر
والمواسم قحط وجفاف
هذا المطر
أمَّنته على ابتسامات فجري
فحولها دموعا ونشيج مزاريب
على وجنات البيوت الثكلى
هذا المطر
سألته السكينة والرضى
ففجّر ضجيج الغضب الرجيم
وأطلق سراح شياطين الغواية
توسوس في صدر الأماني
وترشي بالسكانر ملائكة الرب
لتغفل عن التسبيح باسم الحب
هذا المطر يفكّ غلالة النجمة
لتحسر عن نهدين متمردين ببحر مضرم
صنوان يصبان كؤوس الغرام
في كل فم بالعشق مستعر
ويصرخ الليل أنْ أمطري ثم أمطري
ومن هذا المطر
ينبثق الطيف يهزج الرهبة
وبميلاد جديد يئن الناي وينتحب الوتر
وتنبثق شهقة القمر
وحبات المطر
تضع اثقالها على الضياء المنتشر
فينتصب الحلم القديم
على ضفاف العمر……
ووراء ظلال الأيام تتبخر زخات المطر
وهذا المطر..
(فائزه بنمسعود )
يوميات مارقة 2-Ottawa /15/12/2022-
سألتها ذات مرة : ثمة حس صوفي يتجلى في بعض قصائدك،ويظهر ممتزجاً مع ما هو حسي وجسدي.وما الذي ترمي إليه من خلال هذا المزج؟
وكان جوابها :
" يرجع ذلك إلى طبيعتي الشخصية،وما أثر فيها من جوانب فلسفية وفكرية،فقد كنت،وما زلت، ميالة للعزلة والتأمل،والعالم يسلبك هذه المتعة.التصوف،مفاهيمه،وأحواله ومقاماته المجردة، وليس بشطحاته الفكرية،هو ما جذبني،أو لنقل انجذب إليَّ،حيث كانت نفسي بيئة خصبة له.
أما تجليه شعريا،فلأنه كان التعبير عن السمو والرفعة والنقاء،وهذا ما رغبت في نقله إلى قارئي،إضافة إلى الجانب المعرفي،وأقصد به الجانب الأخلاقي؛فالجسد مادة أرضية معتمة تتسم بالشهوانية،ولكنه يؤوي روحاً من مادة سماوية نورانية تتسم بالأخلاقية،وبينهما يدور الصراع الأزلي الأبدي،ودعوتي أن على الإنسان أن يدرك أن مادة جسده تنطوي على روح نقية، فلا يهملها، وعلى علاقاته بالعالم أن تمضي بحسب هذا الجانب الروحي."
ختاما أقول:
الشعر صنو المعاناة،فهما روحان في جسد واحد،جسد الشاعر الذي يعيش لحظات المعاناة ليعكسها شعراً ينبجس من قلبه ووجدانه.
والشاعر بحكم تكوينه النفسي،وحبه العميق للتعبير عن وجوده وتفاعله مع الحياة،يعيش دائماً مع المعاناة،ويتصالح معها،لأنه إنسان ذو إحساس رقيق وشعور مرهف..يستطيع أن يصنع من هذه المعاناة شعراً خلاّقا يداعب الذائقة الفنية للمتلقي، ويدفع به-قسر الإرادة-إلى حلبة الرقص على إيقاع الكلمات..
وهنا أضيف : لا تولد القصيدة وفي فمها ملعقة من ذهب،بل تأتي من رحم المعاناة،إذ يبث كاتبها الروح فيها بعد عناء،فتلتقط أولى أنفاسها على يديه،ويحرص على ألا تخرج إلى الدنيا إلا وهي في أبهى حلتها،بعد تنقيح وتعديل،وتغيير وتبديل،لتكون ثمرة مواقف وتجارب،وخلاصة دقائق مليئة بالانفعالات،وأيام متخمة بالمشاعر،وأشهُر،أو حتى سنوات،مزدحمة بالتدفق العاطفي الشاعري.
وبهذا تنطلق القصيدة متكاملة العناصر،تنطلق إلى عالم الشعر كالدرة،لتزيد الكون جمالاً وشاعرية وأحاسيس.
هكذا هي الشاعرة التونسية الفذة فائزة بنمسعود كما أراها..وكما أصغي إلى قصائدها العذبة..التي طالما داعبت ذائقتي الفنية..
على سبيل الخاتمة:
تتجاوز مهمة الشاعر رصف الوحدات اللسانية بالطريقة،التي تتحقق بها السلامة المعنوية، وتتعدى اللغة الشعرية حدود القواعد النحوية لتتبنى منطقا جديدا هو منطق اللغة الشعرية،لأن المنطق الذي يخرق المألوف ويقتحم عوالم المجهول لأنّه يؤلف بين دوال متباعدة،لا تلتقي في نظام اللغة
ـ المعيار أي اللغة المتداولة التي لا تسعى إلى تحقيق ما أطلق عليه جاكبسون ″الوظيفة الشعرية″. وإذا كان الشاعر لا يتعامل مع اللغة تعاملا بريئا،لأنّه يستدعي الألفاظ وينسجها بطريقة مقصودة (الشاعرة التونسية القديرة فائزة بنمسعود نموذجا)،فإن القارئ مطالب بأن يكون حاذقا في فك شفرات النصوص بالدفع بكل كلمة إلى مجال تنكشف فيه الدلالات الخفية التي لا تتمظهر على سطح النص،ويؤول الأمر في النهاية إلى قراءة القراءة وإلى دلالة الدلالة.
وهو ما يستدعيه النّص الأدبي،حتى يبقى ديناميا ومفتوحا على التأويل.
ونرجو من الله التوفيق في استيعاب وفهم الدلالات والإيحاءات الإبداعية في قصائد شاعرتنا التونسية الفذة فائزة بنمسعود..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق