الاثنين، 31 مايو 2021

التّحدّي .. قصة : مصطفى الحاج حسين/جريدة الوجدان الثقافية

 


*** التّحدّي ..

قصة : مصطفى الحاج حسين .
كان عائداً من عمله ، منهكاً لا يقوى على جرّ نفسه ، فتحت له "مريم " الباب ، وهتفت بفرح واضح :
- " رضوان " ..أنا أعرف كتابة اسمي ، ظنّها تهلوس فهي أمّيّة مثله ، فسألها ساخراً :
- وكيف تعلّمتِ الكتابة ياعبقريّة ؟.
- من " سميرة " ، هي التي علّمتني .
خفق قلبه ، أمعقول هذا ؟! .. هل يمكن له أن يتعلّم ، وهو ابن الثانية عشرة ، وبرقت في ذهنه فكرة ، سرعان ما كبرت ، قبل أن يخطو عتبة الغرفة :
- (( سأعرض على " سامح " أن يعلّمني ، سأرجوه إن رفض . سأشتري له " البوظة ")) .
وفجأة .. شعر برغبة عارمة ، في رؤية " سامح " ، قرر أن يذهب إليه حالاً ، وقبل أن يغسل يديه ووجهه من الغبار
والعرق ، ودون أن يغيّر ثيابه المهترئة والمتّسخة ، قفز مسرعا
ًبينما كانت أمّه تعدّ له طعام الغداء.
دخل بيت عمّه " قدّور "، وجد " سامحاً" محنيّاً على كتابة وظائفه ، فقال بسرعة :
- " سامح " أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي .
رفع " سامح " رأسه نحوه ، وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه :
- تعلّم الكتابة صعب عليك .
- ولماذا صعب ؟!. هكذا سأل بحنق .
- صعب .. ثمّ ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة اسمك ؟!.
- سأستفيد ، سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي وأمي و مريم وسميرة أيضاً .
ضحك " سامح " ، فاغتاظ " رضوان " وقد أدرك شعور ابن عمّه بالتفوق عليه ، فأحسّ نحوه بكرهٍ شديد ، غير أنّه وفي هذه اللحظة لا يريد إغضابه ، وهو على أيّ حال قادر على ضربه ، لذلك كبح حنقه :
- ماذا قلت ؟؟.. هل أنت موافق ؟.
هزّ " سامح " رأسه علامة الموافقة ، وبقيّ صامتاً يتطلّع إلى الأرض ، كأنّه يفكّر بشيء ما .
- إذاً هيّا بنا .. تعال علّمني .
- لا .. ليس الآن ، سأعلّمك ولكن فيما بعد .
- ولماذا فيما بعد ؟!.. أنا جاهز الآن .
سأل بلهفة من فقد صبره .
- اسمع يا " رضوان " ، هناك فتى في صفّي يزعجني كلّ يوم ، وأنا لا أقدر عليه ، أريدك أ تنتظره عند باب المدرسة وتضربه
.. هذا هو شرطي ، لكي أعلّمك ، فما رأيك ؟ .
صرخ " رضوان " دون تفكير ، فلقد شعر بالنشوة والاعتزاز
بنفسه ، " فسامح " يعترف بقوته ، بشكل غير مباشر :
- طبعاً أنا موافق .. حتّى من غير أن تعلّمني ، فأنت ابن عمي ، أنا على استعداد لقتله نهائياً من أجلك .
عاد " رضوان " إلى بيته ، وهو يفكر :
- (( سوف أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا أحبّهم ، فأنا قويّ ، الجميع يشهد لي بذلك ، وكلّ من يدرس يحسدني على قوّتي .)) .
في اليوم التالي ، وقف " رضوان " قرب المدرسة ،ينتظر
وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه ، ولذلك فهو لم يحمل معه سلاحاً ، كان يهمس في سرّه :
- (( سأعاركه بيديّ ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأس بالحجارة )) .
وكان يتخيّل كيف أنّ " سامحاً " سيحسدّه على قوته ، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً.
بدأ الطلاب يخرجون ، فأخذ يحملق فيهم واحداً واحداً .. ولاح له " سامح " يرتدي صدريته ويحمل حقيبته، ولمّا اقترب منه كان وجهه مصفراً ، فدنا منه وهمس:
-" رضوان ".. أنا خائف .
فصاح " رضوان " بصوت مرتعش :
- ولماذا تخاف ؟؟!! .. أنت دلّني عليه فقط .
فقال " سامح " بصوته المضطرب :
- سيعرف أنّك ابن عمّي ، وسيقدّم شكوى بحقّي للأستاذ .
- لا عليك .. لن أجعله يعرف من أنا .. سأتبعه إلى أن يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب فوق التراب .
ابتعد " سامح " كالمذعور وهو يهمس:
- لقد جاء .. ها هو ، ذاك الذي يحمل حقيبة سوداء كبيرة .
نظر " رضوان " حوله، فشاهد عدداً كبيراً من التّلاميذ متشابهي الثياب ، غير أنه عرف خصمه من بينهم ، صاحب المحفظة السوداء ، وعندما اقترب منه ، وجده أطول قامة ، وتظهر في وجهه علامات القوّة والشقاوة، تبعه " رضوان" بينما كان"سامح " يبتعد ، وهو ينظر خلفه ، بين اللحظة والأخرى .
دخل الخصم في زقاق جانبي ، وأخذ يسرع خطاه ،عندما
عاجله " رضوان " بصرخة قويّة:
- توقّف ياكلب .. توقّف عندك .
التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً ، فرأى " رضوان " مسرعاً نحوه وهو يصرخ :
- نعم .. أنت .. توقف ، سوف ألعن أباك .
وفور وصوله هجم عليه ، مسدداً ضربة قوية على وجهه ، فحمل هذا محفظته ، وهوى بها على وجه " رضوان " فتدفق الدّم من أنفه غزيراً ، فجنّ جنونه .. وزعق :
- سأفعل بأمك يا ابن ال ....
والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه، الذي تفاداها ببراعة ، واشتبكا بقوة ، وكلّ يحاول أن ينتف شعر الآخر ، بينما دم " رضوان " يسيل على وجهه ، والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير ، ومن بعدٍ لمح " رضوان " ابن عمّه " سامحاً " واقفاً يراقب المعركة ، فشعر نحوه بالحقد ، كيف يقف هكذا دون أن يساعده ، فهذا الخصم قويّ لا
يستهان به ، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح، وأصابه الخجل عندما استطاع خصمه أن يلوي له ذراعه ، لا بدّ أنّ " سامحاً " يسخر منه الآن ، يده تكاد تكسر تحت ثقل الضغط ، ففكر أن يستغيث " بسامح " ، ولكن قوته المزعومة ستهتز حقاً في نظر " سامح " .. تألم كثيراً ولكنّه استطاع في اللحظة الأخيرة أن يصرخ :
- اترك يدي ياابن السافلة .. لقد كسرتها .
ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة على مؤخرته ، تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر ، لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض ، فانطلق يعدو وخلفه خصمه ، وهو يهتف :
- توقّف يا جبان .. سألعن أباك .
حول سور المدرسة قعد " رضوان " حاملاً في طيات نفسه ذلّه وانكساره ، لقد هزم .. ياللفضيحة ، وكان يتساءل :
- (( كيف سأقابل " سامحاً " ؟. وماذا سيقول هذا الوغد " لسميرة " ، التي أتظاهر أمامها دائماً بالقوة ؟؟ .. اللعنة عليك يا " سامح " ، هل نصبت لي فخاً ؟!؟!.. هل كنت تعرف مدى قوة ذلك السّافل ؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه ؟ .. أكنتَ تمتحن قوتي ؟!.. أم كنت مخدوعاً بقوتي مثلما كنتُ أنا مخدوع .. ولكنّي سأريك قبل أن أري خصمي ، بأنّي لست جباناً .. فإن هربت اليوم ، فذلك لأنّي متعب من العمل ، في الغد سأحتال على أبي وأبقى في البيت ، وآتي إلى المدرسة ، قسماً سأهشّم رأسه ، سأضربه حتّى الموت .. فلا تسخر منّي ياوغد ، وإياك أن تذكر شيئاً أمام أختك " سميرة .
ما كان عليّ أن أهرب ، كان عليّ أن أحمل سلاحاً ، وأن أجد حجراً ، بدل أن أهرب .. اللعنة على الحجارة ، حين نحتاجها لا نجدها .. ما أبشع الهزيمة ؟!.)) .
ظلّ " رضوان " هكذا متوارياً ، يفكّر .. وها قد حلّ الظّلام ، ولا بدّ له أن يعود ، قبل أن يتفقده أبوه .
وفي اليوم التالي ، استطاع " رضوان " أن يحتال على أبيه ، ولم يذهب إلى الشغل، نهض من فراشه متّجهاً نحو المطبخ ، وأخذ يتفحّص السكاكين، فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء وجهه من خصمه ، وبسرعة أخفاها وراء ظهره ، حين دخلت عليه أمّه سائلة :
- لمَ تركت فراشك وأنتَ مريض ؟ .
فهرب أمامها دون أن تلمح السكين ، إنّه لا يخافها على الإطلاق ، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر والده بما يفعله . ولقد كتمت أمر تدخينه السّجائر أمامها رغم تهديداتها المتكررة .
كان عليه أن ينتظر ، ريثما يحين موعد انصراف طلاب المدارس ، فقضى هذا الوقت في محاولة تجربة السّكين في قطع الأشياء ، وقام بالتدرّب عليها ، حيث يقفزها بقوة عن بعد، فتعلق بأعمدة الكهرباء . لم يشأ أن يقابل " سامحاً " ، أجّل ذلك ريثما يسترد كرامته ويحقق انتقامه ، وأقسم :
- (( لو أنّي رأيته الآن ، وشعرت بأدنى بادرة منه على السّخرية والتقليل من شأني ، لكنت قتلته بالسكين فوراً . )) .
انصرف الفوج الأول ، وتدفق الأولاد مندفعين مبتهجين لاستعادتهم حريتهم ، فأسرع إلى زقاق معركة الأمس ، مصمماً على الانتقام ، في نفس المكان الذي شهد انهزامه ، حتّى لا يشعر بالخجل والعار كلّما مرّ به .
وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين والقادمين إلى أن برز خصمه قادماً من بعد ، خفق قلبه في حين اشتدّت قبضته على السكين .. اختبأ عند المنعطف محدثاً نفسه :
- (( سأباغته بطعنة في بطنه .. وأهرب .)).
حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء ، وصار بمحاذاة المنعطف ، برز له " رضوان " شاهراً سكّينه بيده ، انتبه الولد لهذه الحركة السّريعة ، فتجمّد مكانه لا يعرف ماذا يفعل ، فسارعه " رضوان " بهجمة تريد أن تصل بطنه بطعنة خارقة ، وقبل أن يصل إليه ، انقضّت يد جبّارة لرجل شاهد " رضوان " يمشي خلف خصمه ، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه .
زعق الرجل وهو يشد بقوة يد " رضوان " :
- ارمِ السّكين على الأرض ياكلب .. كدت تقتل ابني .
سقطت السكين .. وصرخ " رضوان " :
- دخيلك ياحجي .. اتركني .
في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف " قدور ..
أبو سامح "، في هذا الزقاق ، ويبصر ابن أخيه، فركض نحو الرجل صارخاً:
- " تترجّل " على ولد ياجبان .
- سألعن والده .. كاد يقتل ابني .
لم يحتمل " قدور " وسدّد قبضة قويّة على عين الرجل ، فترنّح الرجل بينما كانت يده تضغط مكان الضّربة ، وبدأ الصّياح ، فالتمّ الأطفال حول المتشابكين ، وفتحت النساء الأبواب وبدأن بالصراخ .
وفجأة .. وبسرّعة فائقة .. انحنى الرجل والتقط سكين " رضوان " وقبل أن يتفاداه العم " قدّور " ، كانت السّكين قد استقرّت في بطنه ، تعالت الأصوات .. والصرخات .. من كلّ صوب ، بينما كانت عينا العم شاخصتين ، لقد أذهلته المفاجأة ، وانطلق الرجل القاتل يعدو .. ومن خلفه ابنه ..
ووقف " رضوان " يبكي ، لا يعرف كيف يتصرّف ، ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض ، فأخذ الطفل " رضوان " يركض صارخاً :
- لقد قتل عمّي " قدّور .. عمّي مات .
مصطفى الحاج حسين .
حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق