تقديم محمد المحسن
تنويه : أدعو قراء الوجدان الأكارم قراءة هذه اللوحة الإبداعية الموغلة في الوجع والتفاعل معها وفقا لسياقها السردي الإبداعي.
أما أنا،ومن خلال كاتبها الأستاذ نورالدين المباركي ( مراسل فرنسا 24 France ) فإني أوجه تحية من خلف الشغاف إلى " الفتى حنظلة" الذي رافقنا في الأزمنة المفروشة بالرحيل،وواكب هزائمنا ونكباتنا،وكل خيباتنا،وكل ثوراتنا،واحتجاجاتنا الصارخة،وكلماتنا المخنوقة في قمقم السلطة..
حنظلة الطفل الذي لن يكبر،لأنه استثناء كما هو فقْد الوطن..
حنظلة الفتى الذي لن يستطيع مواكبة الزمن طالما كان خارج حدود أرضه.ومن لا يكون على أرض بلاده لا يمكنه أن يشعر بمرور الزمن،ويظل أسيراً لذكرياته التي تكونت حين كان يشم عطر الأرض..
شكرا ناجي العلي..وشكرا نورالدين المباركي.الأول رسم بالريشة والثاني بالكلمات وكلاهما أيقظ فينا جراحا لن تندمل..
نورالدين المباركي الذي أبدع في التصريع،بمعنى اثخان الجرح ورش الملح عليه كأني به يدعونا إلى لملمته وتضميده ( الجرح) في زمن مثخن بالجراح..
نورالدين المباركي الذي لم يكتب هذه الكلمات من عبث عاد بنا-قسر الإرادة-إلى زمن جميل يوم كانت للبطولة معانٍ وقيم، ليلى خالد،وبندقية،فيروز وأغاني زهرة المدائن،ويا جبل ما يهزك ريح..
الآن ألف ريح وريح تعصف بنا وبالحكام العرب..عاد من جديد بحنظلة كي نخبره عن عذاب الأسرى الفلسطينيين في سجون المحتل،وعن الجوع الحافي والقهر الدامي والظلم السافر في غزة..عن أمهات الشهداء الثكالى،عن الموت الذي يتجول-دون خجل أو وجل-في فلسطين في هيئة قطيع من غربان..وعن الجدار العازل وعن أطفالٍ بلا منازل..
عاد بحنظلة من جديد كي نخبره كيف يتحول اسم المقاومة إلى إرهاب،ونعلمه موع عاصفة أن القدس لم تعد عربية،وربما الأقصى والعصافير والشجن..!
عاد حنظلة من جديد،فأفرشوا له أرض فلسطين دموعا كي يستريح..
شكرا نورالدين..وكفى..
عودة حنظلة *
من تحت الركام الثقيل نهض،حافي القدمين، مكشوف الرأس ..
همٌ أن يعقد يديه خلف ظهره لكنه تراجع ، بحث عن عصا بين الركام ،مسكها بيده اليمنى ثم حولها إلى اليسرى وتقدم يستكشف الطريق..
37 عاما وهو غائب بالحضور ، تعرفه المخيمات من غزة و الضفة إلى لبنان و الاردن وسوريا و العراق .
تعرفه جدران العاصمة تونس و الجزائر و الرباط ..تعرفه لندن التي سال فيها دم من كتب شهادة ميلاده ..
تعرفه البلاد وصفحات جرائدها ...
تقدم بين الركام حذرا وليس خائفا من قذيفة قد تسقط أو رصاصة تأتي من خلف ظهره أو عبوة تنفجر تحت قدميه الحافيتين..
أمامه ركام وعلي يمينه و يساره ركام والطريق مازال يحمل آثار الدبابات و الشاحنات و أقدام الأحذية العسكرية ...أين يتجه ؟
اتكأ على عصاه،أطلق عيناه للنظر بعيدا..ثم تقدم في اتجاه أصوات آدمية بعيدة..كاشفا وجهه..
قال : ما عدت طفل العشر سنوات،لماذا أدير ظهري من جديد؟ ..كبرت ولن يعرفونني ..
اقترب من الأصوات الأدمية وبدأ يميز بينها ، أطفال يبكون ، نسوة يتضرعن إلى رب السماء ورجال يتوعودن...ثم بانت له خيام اللاجئين ...
توقف ...
_ يا الله ، بعد غياب 37 سنة ،أعود لأرى اللاجئين في الخيام والاطفال حفاة عراة ...
تذكر شهادة ميلاده قبل أكثر من 60 عاما " اسمي حنظلة.اسم أبوي: مش ضروري. أمي اسمها نكبة،وأختي اسمها فاطمة.،نمرة رجلي: ما بعرف لإني دايما حافي" .
مسح بهدوء دمعة نزلت من عينيه وتقدم الى عمق الخيام المنتصبة ..
ألقى التحية على سيدة،ردت دون أن ترفع رأسها
مسح بكف يده على رأس طفل صغير،فأجابه : عندك أكل يا عم ..
واجه كهلا ،يحمل خبزا قليلا ، سأله :
- ألم تعرفني ؟
- لا ، والله ..بس يمكن أن اقتسم معك الخبز ..
- أنا حنظلة ، عدت
رفع الكهل رأسه أكثر وتأمل الوجه الذي أمامه ...
- متى غاب حنظلة ليعود ...كلنا هنا حنظلة..
نورالدين المباركي
* حنظلة : أيقونة فلسطينية وهي أشهر الشخصيات التي رسمها ناجي العلي في كاريكاتيراته،وقدمها سنة 1969 بجريدة "السياسة الكويتية". ويمثل حنظلة صبياً في العاشرة من عمره. أصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي كما أصبح رمزاً للهوية الفلسطينية،حتى بعد موت مؤلف الشخصية. ظلت شخصية حنظلة باقية لأنها تجاوزت قضية محدودة إلى دلالات إنسانية أوسع. ولم يقتصر في انتقاداته على إسرائيل وأمريكا، لكنه انتقد العرب بل حتى بعض الفلسطينيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق