السبت، 30 نوفمبر 2024

قراءة نقدية بقلم الكاتبة و الناقدة زهراء كشان في رواية الهرَّاب للكاتب و الروائي الجزائري رفيق موهوب

 قراءة نقدية بقلم الكاتبة و الناقدة زهراء كشان                                                      

 في رواية الهرَّاب للكاتب و الروائي الجزائري رفيق موهوب

يقف الإنسان على ضفاف أحلامه بين صدى يدعوه للمواجهة و صوت يغريه بالهروب

في صراع داخلي يمزّق الروح وحكاية تنبض بالتساؤلات الكبرى هل الهروب تحرّرٌ أم وقوع في أسرٍ جديد؟ هل الهروب نجاة أم سقوط في هاوية أعمق؟

رواية الهِرَّاب عمل أدبي إبداعي انعكاس وجودي لتجربة إنسانية أشبه بفسيفساء تتشابك فيها الأحلام والهواجس وتمتزج الحقيقة بالخيال لتجعل القارئ شريكًا في إعادة رسم المشهد يرسم الروائي رفيق موهوب في الأفق الإنساني الذي يتجلى عبر التخيل روايته بايوديلوجية حكيمة تختزل من تجربة الأفراد مشاهد وتلون لوحة فنية في أفق بلا حدود ببراعة و بمختلف الألوان بطرح شجاع تلازمه المغامرة و الجرأة و التحدي فما الذي يكشفه "الهِرَاب" عن النفس البشرية؟ وكيف يمكن للهروب أن يكون فعلًا مليئًا بالحضور؟      في هذه القراءة التأملية التي نسجتها بناءً على تصفحي لرواية الهرّاب في رحلة تتجاوز حدود الزمن والمكان سنكتشف الرمزية التي اعتمدها الكاتب رفيق موهوب والعلاقات المعقدة بين الشخصيات والبنية السردية التي صاغها قلمه الأنيق بمهارة لعرض أحداث هذه الرواية التي تجمع بين المتعة و نماذج إنسانية متعرضة لأزمات .

الغلاف:

في رواية الهرَّاب نغوص في رمزية الغلاف وعمق العنوان، لنعرف كيف استطاع الكاتب أن يجسد ثنائية الهروب والمواجهة  فالعمل الأدبي ليس فقط ما يُكتب في المتن بل يبدأ منذ النظرة الأولى للغلاف ومن وقع العنوان في النفس،دعونا نتأمل "الهَرَّاب" بكل ما يتضمنه من دلالات فلسفية ونفسية ونكتشف كيف يمكن لفن السرد أن ينقل معاناة أمّة أو تصدّع ذات من أجل أن نعرف معنى الهروب كفعل وجودي مقاوم

يضع الروائي الكتاب بين يدي القارئ بعنوان"الهَراب"الغلاف ينبض بمعان تختزل عوالم كاملة في كلمات ورموز بصرية إنها المدخل الذي يدعو القارئ للولوج بين السطور عنوان "الهَراب" وصورة الغلاف ليسا مجرد تغطية سطحية للعمل بل هما جسرٌ متينٌ يربط بين العمق الفلسفي للرواية والواقع الصعب الذي تعالجه إنهما يحملان في طياتهما صرخات إنسانية و تناقضات بين الخوف والرغبة في الحرية وبين القيد ومحاولة كسره

غلاف الرواية والعنوان يجسدان معًا صراعًا إنسانيًا وجوديًا الزمن الذي يهدد والإنسان الذي يهرب لينجو ولكنه في الوقت ذاته يبحث عن معنى لوجوده وسط المتناقضات   الغلاف يمثل قوة واعية تتجسد في شكل بشري قادر على التأثير والسيطرة، الوجه المرسوم على الغلاف يوحي بالتحدي تُعَبِرُ الملامح الحادة والتجاعيد البارزة عن عمق الزمن مما يعكس التوتر أثناء قراءة الرواية و الإثارة الشديدة،العيون تخترق القارئ كأنها تحمل سرًا غامضًا وتعلن عن نوايا تتجاوز قراءة الروايات العادية إلى قراءة رواية مميزة و جذابة،اللون الأسود والأحمر:الجمع بينهما يعبر عن تناقضات الحياة،الأمل واليأس،القوة والهلاك،اللون الأسود يرمز إلى الغموض الكامن في الرواية و هو خلفية العالم المظلم الذي يعاني فيه الإنسان بينما الأحمر يصرخ بالقوة و العاطفة و الغضب   الابتسامة غامضة أقرب إلى ابتسامة تحدي تعكس ابتسامة شخص واثق من نفسه و لكن مع نظرة ثاقبة مثيرة للرعب يصعب فهم دوافع هذا الشخص مما يثير فضول القارئ لاكتشاف ما وراء هذا التعبير المدهش

العنوان

الهِرَّاب عنوان الرواية  يضعنا أمام مشهد إنساني حيث تكون الشخصيات في صراع دائم مع الواقع هو حالة وجودية تعبر عن تمزق داخلي وصراع خارجي  يُلقي الضوء على اللحظة التي يتحول فيها الهروب إلى تمرد وخوف إلى مقاومة بأسلوب مليء بالتحديات والمخاطر وهو دعوة للتأمل في هروبنا نحن القراء من أزماتنا الشخصية

الهرَّاب بصيغتها اللفظية تمنح الكلمة إيقاعًا قويًا ومختلفًا،الحرف المشدد يُضيف قوة وإلحاحًا مما يشير إلى فعل استثنائي،الكاتب يريد إيصال حالة خاصة من الهروب ليست مجرد فرار عادي بل صراع داخلي مكثف ومحاولة لكسر قيد أو تجاوز حدود،الكلمة تحمل في جوهرها إحساسًا بالعنف أو السرعة،يرمز إلى حالة من الهروب الممزوج بالخوف أو التمرد حيث يكون الهروب هنا ليس خيارًا واعيًا بقدر ما هو فعل اضطراري للبقاء هذا العنوان يضع القارئ أمام سؤال إذا كان الهروب هو السبيل الوحيد لتحقيق الحرية؟ هل "الهَرَّاب" وسيلة نجاة،أم أن الهروب المستمر يسلب الإنسان كرامته وقدرته على المواجهة؟

صوتيًا "الهَرَّاب" كلمة تبدأ بحرف "الهاء" الذي يوحي بالتنهد أو بداية رحلة شاقة وينتهي بحرف "الباء" الذي يعكس ثقلًا أو سقوطًا الحروف تُعبِّر عن حركة دائرية من الخوف والانطلاق إلى الاستقرار في النهاية على مصير مجهول

من الناحية الفلسفية "الهَرَّاب" يعكس صراع الإنسان مع القدر والمجتمع حيث يبقى الهروب فعلًا ناقصًا ما لم يتحول إلى مواجهة حقيقية للظروف المحيطة

الكاتب يدعو القارئ إلى التفكير في معنى الهروب هل هو مجرد فرار أم بداية لفعل تغييري؟

أما إذا قمنا بالإسقاط السياسي والاجتماعي على العنوان الهرَّاب يمكن أن يكون تعبيرا على وضعية مجتمع يحاول الهروب من الاحتلال أو من وضعية اجتماعية سيئة حيث لا يكون الهروب خيارًا فرديًا بل حركة جماعية تحمل في طياتها المعاناة و الخوف كما يوحي بشعور أعمق بالضياع في زمن تنهار فيه الثوابت والقيم،و يصبح "الهَرَّاب" فعلًا إنسانيًا شاملًا،يتكرر في محاولات الشعوب والأفراد للبحث عن حياة كريمة

الاستهلال

جميلة جدا كأنها خلقت من تراب القمر هذه العبارة تحمل بعدا  فلسفيا عميقا ومؤثرا فيها يمزج  بين الجمال و القدسية ومشاعر حب سماوي مع استعارة كونية تعبر عن سحر القمر الذي يعكس نور الشمس و يرمز إلى الرقة و الصفاء في مخيلة الإنسان،توحي بأن أمّه كائن فريد يحمل في جوهره جزء من كيان أكبر، يُشَبِهُهَا في مشاعرها الدافئة و تضحياتها بضوء القمر الذي يهدي التائهين وقت الغسق.    في العبارة أنت البحر كله و أنا الموج وسطك مهما ارتفع موجي سأرجع إليك يا أمِّي هذه العبارة تفيض بمشاعر الامتنان والحب العميق للأمّ وتجسد العلاقة الأبدية بين الأم وأبنائها بكل ما فيها من جمال وتواصل روحي تحمل دلالات فلسفية غنية بالتأمل ترسخ شعور الطفل تجاه أمِّه في صورة بحر يحتضن الموج بحيث يكون البحر رمز الاتساع و الموج يمثل العواطف و التقلبات مهما ارتفع الموج فإنه يعود ليجد الأمان و السكينة في حضن البحر هكذا الأمّ هي الملاذ مهما كانت الصعاب.

لقراءة هذه الرواية قراءة منهجية نعتمد على محاور رئيسية تشمل: الموضوع والفكرة، الشخصيات، الحبكة، اللغة والأسلوب، والرسالة والرؤية العامة الخاتمة

الموضوع

الرواية تجمع بين الأدب التاريخي والأدب السياسي حيث تستخدم الحدث التاريخي كمرآة لتناول أفكار سياسية معاصرة،تنطلق أحداثها في ولاية الجزائر بالتحديد في القصبة و باب الوادي من بداية التسعينات لتضرب في الذاكرة إلى ماض بعيد  تتطرق إلى الصراعات والهويات وقضايا مثل الاحتلال و القمع التمييز الديني و العرقي والمقاومة كما يظهر وجود إشارات إلى النضال والظلم و تتطرق إلى تأثير الأحداث السياسية على الأفراد والمجتمع و تركز على الوقائع التاريخية حرب 67 ضد الصهاينة

مذبحة قسنطينة في 12 ماي 1956-  ترحيل يهود الجزائر1956-1962 –المجاهدون –الموساد – الحرب العالمبية الثانية-جبهة التحرير الوطني

الرواية تتحدث عن الاحتلال و علاقات القوة بين أطراف معينة في سياق تاريخي

تظهر إشارات إلى قضايا متعلقة بالديانات والتمييز الديني خاصة في سياقات تخص اليهودية مما يعكس صراعات اجتماعية وسياسية تتطرق الرواية في سياق سردي إلى معاناة الشعب الجزائري وقت الاحتلال كما تظهر إشارات إلى تواريخ مرتبطة بوقائع سياسية تتعلق بالحقبة الزمنية التي ظهر فيها الإرهاب

اهتم الكاتب رفيق موهوب بمظاهر المقاومة و النضال و تناول قضايا معاصرة و تاريخية مرتبطة بالصراعات والهوية والتغيرات الاجتماعية صور الكاتب في منحنى التطور الاجتماعي لحظة انقلاب المواقف و قام بإصلاح هذا الشرخ بأخلاقه و ميوله و وجدانه،وتحمل قلمه هذا العبء معه،اعتنق الكاتب بعض الظواهر الاجتماعية أثناء الكتابة و بصمها على الورق

الفكرة الأساسية: الرواية تسلط الضوء على الصراعات السياسية والاجتماعية مع التركيز على الهوية والتفرقة الدينية القصة مستوحاة من واقع  إجتماعي سياسي حقيقي يتعلق بفترات تاريخية دقيقة و يبرز تأثير الأحداث السياسية الكبرى على الأفراد والمجتمع مما يعكس وعيًا عميقًا بالطبيعة المركبة للصراعات الإنسانية و الاجتماعية

الشخصيات: تحمل أبعادًا رمزية وتجسد الفئات المتأثرة بالصراعات سواء ضحايا أو مشاركين،دوافع الشخصيات مرتبطة بالتحديات السياسية مثل الهوية،الدين،والانتماء مما يجعلها أدوات فعالة لنقل الأفكار اإاتحاد

تستمر الشخصيات في التطور بما يخدم الفكرة الأساسية للرواية مما يدل على بناء منسجم للشخصيات

الحبكة: تبدو مترابطة ومبنية على أساس أحداث سياسية تاريخية و اجتماعية الأحداث تتبع تسلسلًا منطقيًا ومتصاعدًا يؤدي إلى ذروة درامية،تتدفق أفكار الكاتب متسلسلة و تنساب الكلمات مخضلة ليرصد أحداثا من موقعه،يقوم بتجميع الأحداث و تنظيمها بتفاصيل جذابة تجعل المتلقي يسهب داخل الوصف و التراكيب دون تعثر بشوق لمعرفة الأجزاء و الوصول إلى النهاية.   القارئ لرواية الهرَّاب كأنه زائر لمدينة مزدحمة تضج بالتفاصيل و الألوان يزخر النص بالصراعات سواء داخلية في نفوس الشخصيات أو خارجية مع القوى المسيطرة هذا الصراع يساهم في إبراز الطابع السياسي والاجتماعي

اللغة والأسلوب

اللغة: رواية الهرَّاب تعتمد لغة قوية ومؤثرة،يمتزج فيها الواقع بالخيال،مما يناسب طبيعة الموضوع السياسي الاجتماعي

الأسلوب السردي: الأسلوب خدم الفكرة الرئيسية للنص الروائي حيث عمل الكاتب على توسيع الرؤية وركز على الوصف الدقيق  لتغذية الأحداث والأفعال التي تقوم بها الشخصيات مع محاولة خلق أجواء تتوافق مع المواقف المختلفة كما نجح الروائي رفيق موهوب في ابتكار سلسلة من الأحداث المرتبة زمنيا تعاقبت و انسجمت منطقيا.

الإيحاء والرمزية: استخدم الكاتب  الإشارات التاريخية والسياسية التي عكست كالمرآة عمقًا رمزيًا  أثرى المعلومات الضرورية و اتسعت عن طريقه البيئة التي تجري فيها الأحداث.

الرسالة والرؤية العامة

رسالة الرواية: تهدف رواية الهرَّاب إلى تسليط الضوء على معاناة الإنسان في ظل حوار الديانات وغياهب الاحتلال  وطرح تساؤلات حول الهوية والانتماء اليهودية و الإسلام

الحرب العالمية الثانية- جبهة التحرير الوطني- المجاهدون – الاحتلال- حرب 67 ضد الصهاينة –الجماعات الإرهابية

الرؤية النقدية: الكاتب يتبنى موقفًا حصيفا تجاه قضايا التفرقة الدينية و الصراعات السياسية التاريخية الممتدة عبر فترات في تاريخ الجزائر مما يجعل هذا النص الروائي يحمل بعدًا إنسانيًا و اجتماعيا يلج أروقة الأدب الروائي العالمي

.خلاصة النقد

الرواية تحمل رؤية سياسية دينية و اجتماعية بأبعاد وطنية تحتفظ بقيمتها الفنية والجمالية و الفلسفية تُظهر انسجاما بين البنية الأدبية والمضمون الفكري، الكاتب يستثمر الشخصيات والأحداث لإثارة أسئلة وجودية وسياسية حول المصير والهوية،النص يبدو ملتزمًا بقضايا كبرى مما يجعله  أقرب إلى أدب الرسالة

أسلوب الكاتب

اعتمد الكاتب لغة سليمة قوية ومؤثرة تعكس عمق المعاناة والظروف الصعبة التي تعيشها الشخصيات هذا يشير إلى أنه يملك مهارة في إيصال الأفكار بأسلوب فني سليم     الرمزية والواقعية: الأسلوب يمزج بين الرمزية في طرح القضايا الكبرى مثل الهوية والواقعية من خلال وصف الأحداث والمواقف بتفاصيل جذابة،هذا المزج يمنح النص الروائي جمالا ويجعله مفتوحًا لتفسيرات متباينة

التوازن بين السرد والوصف:الكاتب يمنح اهتمامًا كبيرًا بالوصف التفصيلي للأحداث والشخصيات،و يبدع في مسار الوصف ليشعر المتلقي بحضوره في حقول النص واستمرت في تحضير مائدة العشاء......كانت منشغلة بترتيب الصحون  و الملاعق –كانت رشيقة تفضل لبس الأسود - حملت من المطبخ ولاعة لإيقاد شمعتين أو أكثر في شمعدان منفرد أو متعدد الشعب

تنوع الأساليب: استخدم الروائي السرد متعدد الزوايا مما عكس براعة في التحكم بالأسلوب أضاف جاذبية للنص الروائي و كانت له الجرأة في طرح قضايا سياسية وطنية دينية و اجتماعية و تميز باختيار مواضيع اجتماعية حساسة بشجاعة في الطرح وبوضوح في الرؤية مما جعل الطرح جادًا ومؤثرًا

العمق الفكري: النص يبرز فهمًا عميقًا للسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي يتناولها،مما يعزز مصداقيته يُلاحظ أن الكاتب لا يكتفي بوصف الأحداث بل يحاول تحليلها واستنطاق معانيها كما أن النص الروائي هنا يحمل رؤية الكاتب انحيازي تأكيدي ضد الاحتلال والظلم و هذا واضح في الأدب الذي يهدف إلى الدفاع عن القيم الإنسانية   ربط الكاتب  القضايا الشخصية بالقضايا الكبرى و نجح في تصوير كيفية تأثير القضايا السياسية الكبرى على مصائر الأفراد و هذا يعد نقطة قوة لأنه يربط بين معاناة الشخصيات والظروف السياسية والاجتماعية كما أن الأسلوب يعكس وعيًا أدبيًا متكاملا و إدراكا شاملا بالموضوعات التي يتناولها مما عزز من وقع النص على المتلقي تمت معالجة القضايا المطروحة بجرأة وكان الوصف و التحليل مناسبان مما منحا النص سردا منسجما وقائع و شخصيات مع الدقة و الإتقان

الخاتمة    أبدع الكاتب في طرح القضايا وتصور الأحداث بأسلوب قوي ومقنع و عرض المواقف فيها بهدوء و جمال،كما تميز الروائي بإخضاع البنية السردية باحترافية قلمه لمعالجة المواضيع السياسية والإنسانية بأسلوب أدبي مميز مع نجاحه في انسيابية القص الروائي رفيق موهوب لديه إمكانيات كبيرة لترك أثر إيجابي  في الأدب السياسي التاريخي والاجتماعي و روايته الهرَّاب تنبض بالحياة تحمل القارئ في رحلة تأملية لا تُنْسَى يعيش تفاصيلها و يعيد اكتشاف ذاته بين سطورها رواية الهرَّاب جديرة بالقراءة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق