السبت، 30 نوفمبر 2024

تجليات ظاهرة القصيدة النثرية النسوية..بوصفها إحدى الفعاليات الجمالية المبدعة.. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 تجليات ظاهرة القصيدة النثرية النسوية..بوصفها إحدى الفعاليات الجمالية المبدعة..


تصدير :

-إذا كانت الكتابة الذكورية تشكل موقفًا انطولوجيًا من العالم فإن الكتابة النسوية تسعى إلى كتابة تاريخ أنطولوجي للغياب القسري للذات أو التاريخ الذي كتب نيابة عنها في مرحلة زمنية معينة..(الكاتب)

 


تكشفت التحولات الدالة لقصيدة النثر بوصفها فضاء شعريا مفتوحا عن انبثاق صيغة جلية للكلام الجمالي النسوي،أصبحت فيه المرأة العربية المبدعة أكثر تفتحا وإشراقا وتعبيرا عن همومها الحقيقية بشكل غير مسبوق في الشعرية العربية القديمة والمعاصرة على السواء،حيث كان من نتائج التحولات الجمالية المثمرة لقصيدة النثر احتضان الصوت النسوي شعريا ليعبر من خلال هذا الشكل بمعياريته الفنية المفتوحة،حيث تجلت ظاهرة القصيدة النثرية النسوية بوصفها إحدى الفعاليات الجمالية المبدعة التي مارست المرأة فيها الكتابة بشكل مطلق،لا يعتد بالحالة الرومانتيكية البسيطة التي كانت تصنف ضمنها كتابة المرأة العربية،أو بالأفكار الأولية التي كانت تحصر كتابة المرأة في نطاق ما هو سردي يتوخى في الأساس الكتابة عن الآخر، وعن التعبير عن بعض إشكاليات القهر أو الحب،أو التجارب الوجدانية الصغيرة .

تجليات قصيدة النثر النسوية العربية والتونسية :

أثر “الربيع العربي”بشكل أو بآخر على الشعر العربي الحديث وتأثر به،ولم ينفصل عنه منذ اللحظة الأولى،حيث استخدم المتظاهرون الشعر في الهتافات وفي التعبير عن طموح الحرية،واستعادوا عددا من الأصوات الشعرية العربية التي طبعت فترة من فترات الحراك الثوري العربي في الماضي،مثل أبيات أبي القاسم الشابي المشهورة :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة/فلا بدّ أن يستجيب القدرْ/ولا بدّ لليل أن ينجلي/ولا بد للقيد أن ينكسر

وقول أحمد شوقي:

وللحريّة الحمراء باب/بكل يدٍ مُضرّجة تدقّ

وهناك الطرف الآخر من العلاقة المتمثل في كتابة شعر يتجاوب مع الحدث الثوري ويرتبط به، فكتب الكثير من الشعراء قصائد تتمثل الأحداث في بلادهم أو في الوطن العربي ككل،ولعل أهمية هذا الأمر تتمثل في استعادة الشعر لعلاقته مع الحياة والناس والاتصال بهمومهم والتعبير عنهم،بعد أن مرّ زمن على ابتعاد الشعر عن حياة الناس،وابتعاد الناس عن العلاقة القديمة الوثيقة بالشعر.لكن كثيرا من هذا الشعر كان ذا طابع جماهيري تقريري مباشر،ولم يرق إلى المستوى الفني الذي يمكن أن تتوفر له فرصة الابتعاد عن الحدث،وتأمله من بعيد،والكتابة عنه بصورة ناضجة كما ينبغي للشعر إذا أُريد له البقاء والخلود.

ولقد تأثر الشعر في تونس بما تأثر به في الوطن العربي ككل،يتمثل ذلك في ارتفاع سقف التعبير من خلال الشعر عن الذات وهمومها وأحلامها وانكساراتها،ولعل مطلب الحرية الموجود أصلا كشرط للإبداع،صار يتسع ويتخذ أنماطا وصورا غير مباشرة،تتمثل في مواضيع جديدة للكتابة عنها،وأشكالا وصورا فنية حديثة لم تكن ممكنة من قبل.وهو ما نجد آثاره في قصيدة النثر العربية والتونسية النسوية.

ولا بد من الإقرار بداية بأن الإبداع قناة من قنوات فهم الذات وتقديم رؤيتها للعالم من حولها،وهذا ما يجعل خصوصية لكل كاتب عن بقية الكتاب،ولا بد بالضرورة أن تقدم الكاتبة رؤيتها الخاصة والمميزة التي ليس بالضرورة النظر إليها على أنها امتياز،كما لا يجوز النظر إليها على أنها أقلية وانتقاص،خاصة إذا كان تعبير المرأة في العصر الحديث يحمل في طياته إرثا تاريخيا طويلا من التهميش والإقصاء لصالح الرجل،وهو ما ينطبق على الحياة الاجتماعية وينسحب على الحياة الثقافية بالضرورة،وما سيظهر في قصيدتها بصورة أو بأخرى،وفي النهاية فإن المرأة تعبر عن هواجسها ورؤاها كإنسانة أولا،وكامرأة ثانيا،وكشاعرة أولا وثانيا وثالثا..

ولا شك أن غياب المرأة العربية الشاعرة عن الحضور الفاعل في القصيدة العمودية الكلاسيكية له ما يبرره،مع أن هناك عددا كبيرا من الشاعرات في عصور الكتابة العربية المختلفة ممن كتبن هذه القصيدة،واشتهرت كثير منهن مثل الخنساء،لكن هذه القصيدة اتخذت صفة الفحولة والذكورة وارتبطت بالرجل أكثر من المرأة،وظلت كتابة الشاعرة العربية عموما لها بشروط ومعايير الفحولة الذكورية،فتتأثر بكتابة الشعراء في الأشكال والمضامين،واستمرّ الأمر كذلك حتى أوائل القرن العشرين حين افتتحت الشاعرة العراقية نازك الملائكة شكلا شعريا عربيا جديدا وهو قصيدة التفعيلة،”نازك المرأة الأنثى التي حطمت أهم رموز الفحولة وأبرز علامات الذكورة وهو عمود الشعر(1)،وشكل قصيدة التفعيلة شكل لا نظير له مباشرا لدى الغرب،وكانت نازك الملائكة أول من كتب بهذا الشكل هي والشاعر بدر شاكر السياب،وأصدرت كتابا تنظيريا سمته “قضايا الشعر الحديث”1962،وفيه فصّلت النظر في قصيدة التفعيلة والتنظير لها،كما كتب بهذا الشكل الشعري الجديد الكثير من الأسماء العربية المرموقة مثل أدونيس ومحمود درويش وأمل دنقل،وفدوى طوقان،إلا أن هذا الشكل بشكل عام لم يشهد إقبالا من المرأة العربية الشاعرة،خاصة إذا ما قيس بإقبالها على قصيدة النثر.

ويمكن القول إن قصيدة النثر مثلت شكلا انشقاقيا في الشعر العربي الحديث،بل إنها شكل انقلابي إذا صح القول،حتى وإن كانت لها بوادر تاريخية قديمة في الشعر العربي وفي النثر العربي،إلا أنها بصيغتها النهائية في ستينيات القرن العشرين وفي ظل الظروف العربية السياسية والاجتماعية والثقافية شكلت مظهرا من مظاهر التحديث والتجديد والانقلاب على القصيدة العمودية أو الكلاسيكية التي استمرت منذ العصر الجاهلي إلى اليوم،وعلى قصيدة التفعيلة كذلك.ولعل هذا التمرد الجذري الشكلي والمضموني لقصيدة النثر على القصيدة الكلاسيكية يمثل أحد أهم الأسباب الوجيهة لكتابة المرأة لهذا النوع،ذلك أن القصيدة العمودية الكلاسيكية-في تقديري-ارتبطت بالفحولة وبالرجل بالإضافة إلى الخصائص الأسلوبية الأخرى التي تمثل أسبابا ترجيحية لتوجه المرأة لكتابته دون غيره،أو أكثر من غيره إذا أردنا الدقة.

وهنا أقول :

ظلت المرأة العربية طوال عصور قابعة شعريا تحت “ظلال” الفحولة الشعرية،كانت تابعة تعبيريا فيما هي متبوعة كصورة أو كلوحة أو كاستلهام عاطفي غزلي رومانتيكي حينا،أو رمزي إشاري أحيانا أخرى كصورة للوطن أو الأرض أو الخصب أو صورة مؤسطرة أو خطابا يستدعيه الشاعر ليتحدث معه عن تجربته في الحياة والعالم شعريا،ومن هنا لا نستغرب كثيرا هذا الاستدعاء الوهمي أحيانا من دون وجـود امرأة حقيقية لتتدفق قصيدة ما.

لكننا نؤكد على أن المرأة العربية الشاعرة تقدمت في العقود الثلاثة الأخيرة تحديـداً،لتشارف عوالمها الشعرية بشكل مستقل،ترى بنفسها،وتشعر بالعالم بحواسها وكينونتها تكتب ما تراه هي لا ما يراه الآخرون.

وليس من السهل سرد أسماء الشاعرات العربيات والتونسيات وأسماء مجموعاتهن الشعرية،لكثرتها من جهة،ولحاجتها إلى دراسة استقصائية لخصائصها الفنية والجمالية من جهة أخرى،وهي تقل كميا عن إنتاج الشعراء ولكنها لا تقل فنيا وجماليا،كما أنها أوجدت خصائص لقصيدة النثر التي تكتبها،تتقاطع مع الرجل أحيانا،وتختلف عنه وتتميز عليه في كثير من الأحيان،فهناك آليات عامة ومشتركة في كتابة قصيدة النثر عند الرجل والمرأة إلا أن لدى المرأة خصوصيتها وجدّتها إذ أضحت ( المرأة الشاعرة ) على علاقة وطيدة بنصها المكتوب..

ومن هنا،تحاول المرأة الشاعرة إثبات وجودها،عبر هذا الشكل الشعري الجديد،بحثا عن ذاتها الحقيقية،وصوتها المعبر،وحريتها المفقودة..إن هذا الصوت يتجلى الآن بوصفه نوعا من الخلاص من الهيمنة الذكورية التي كانت لفترات طويلة تمثل وسيطا بين المرأة والقارئ،حيث أصبحت المرأة اليوم تعبر عن قضاياها بنفسها،خاصة تلك القضايا التي تمس خصوصيتها وذاتها.

لقد أصبح الوعي الماثل بكتابة المرأة وعيا بالفكر الإنساني العام،المطروح عبر انبثاق مفهوم «النسوية» في الرؤى والمفاهيم الغربية المعاصرة..

في ظل هذا الأفق فإن الحالة التعبيرية النسوية العربية اليوم لا تخرج عن الإطار الإنساني،الذي يحتفي بكتابة المرأة،ويشرع لها المجال للتعبير عن قضاياها وشؤونها بشكل مباشر..

على سبيل الخاتمة :

قصيدة النثر في تحولاتها الدلالية أصبحتْ فضاءً شعريًّا مفتوحًا،تؤسسُ لصيغةٍ جماليةٍ جديدةٍ في الكلامِ،وفيها أصبحتْ الشاعرةُ التونسية أكثرَ تفتُّحًا ومعبرةً عن همومِها بطريقةٍ غيرِ مسبوقةٍ،احتضنتْ قصيدةُ النثرِ الصوتَ الأنثويَّ التونسي،وهي إحدَى الفعالياتِ الجماليةِ المُتلألئةِ فِي مَتنِ الشعرِ التونسي.

لقد اصبحت قصيدة النثر تشكل نوعًا من الخلاص التعبيري عن قضايا المرأة التي تمس خصوصيتها،بوصفها انفكاكًا( قصيدة النثر) من الهيمنة الذكورية وهذا ما أشار إليه الناقد والمفكر المصري الراحل صلاح فضل في كتابه -قراءة الصورة وصور القراءة-حيث أشار إلى أن قصيدة النثر أكثر الأشكال التي تلائم وتتسق مع طبيعة المرأة.

وإذا كانت الكتابة الذكورية تشكل موقفًا انطولوجيًا من العالم فإن الكتابة النسوية تسعى إلى كتابة تاريخ أنطولوجي للغياب القسري للذات أو التاريخ الذي كتب نيابة عنها في مرحلة زمنية معينة.فهي كذات تعبر عن العشق في بوح تصيغ عبره هذه العلاقة الوجدانية،تكاد الذات الشاعرة الأنثوية فيها تذوب في الآخر من خلال التغني بالحب في أبهى صوره،وفي حضور لافت للمفردة الرومانسية ودلالاتها.

نموذج لقصيدة النثر التونسية النسوية :

تقول الشاعرة التونسية السامقة د-آمال بوحرب :

رسمتكَ/ودققتُ في الشغف/حتى ذابت ألواني/في سحر عينيك

وارتعش القلب/موج ينكسر على رصيف الهوى /خطوطٌ دقيقة/

تروي حكاياتِ عشقٍ خفي/تتراقص فيها الأشواق/ ابتسامات تتفتح صباحا /وكل جفن يعد / بمزيد من السحر/رسمتك ودققت النظر /أحلامًا مستعصية/تبحث عن قمرٍ أليف/تنسج من ضوء

العيون/قصائدَ لم تُكتب بعد/جراح الأمس/تستعيد ابتسامتها

تجدّف في بحرٍ عميق/يمتد إلى ما لا نهاية/ويتجلى العشق في الأفق/كالنسيم العابر/أرى أرصفةً متروكة/تنتظر خطواتنا/وأيامًا مضت/تسكن في ظلال الذكريات/تنقش على الرمال/ما أشهى القبل /أرى عطر اللغات/يختلط بألوان الحياة/أرى صوتك يعلو/كأنه لحنٌ قديم/يستفز الذاكرة/ويصنع من الفضاء كريات /وحين أحدّق /تتفتح الأبواب/وتستعيد اللحظات نبضها/تدور حول نفسها بحذر/كالراقصات في سكون الليل/والرؤى تتمايل /تدون في حُضنِك عصرَ الفرح/وفِي حكاياتِ العشّاق /نحتسي  الأماني/غريبٌ يُغالبُ الوهمَ في عينيكَ/ويغفو على أملٍ يحصدُ الأزمان/بين رموشك المتلألئة.

ملاحظة أخيرة :

إن استدعاء خطاب المرأة،والوقوف عند مجريات بنائه وطريقة صوغه للعالم،وطبيعة إدراكه للأشياء،نعتبره في تصورنا اقترابًا من معرفة ما تزال بكرًا من حيث التلقي والمقاربة،وإضافة لأسئلة قد يساهم تفكيكها في إعادة النظر في فرضيات معرفية دعمتها السلطة الثقافية السائدة.

أخيرًا لا بد من القول إن قصيدة النثر التونسية النسوية عبر قراءة أصواتها وطرائقها الحداثية واستقرائها يمكننا استنباط أنماط متعددة من قصيدة النثر النسوية،التي جاء فضاؤها مفتوحًا لاختيار الموضوعات التي يمتزج فيها الذاتي والموضوعي،وهذا ما نلمحه بدءًا من الاختيار النصي وبنية النظام اللغوي في مستوياته الصوتية والمعجمية وقوته الدلالية،واشتغال الآليات المشهدية المتحررة وتكثيف الصورة.


محمد المحسن


هوامش :

(1) عبدالله الغذامي،تأنيث القصيدة والقارئ المختلف،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، ط2،2005،ص 12.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق