الخميس، 14 نوفمبر 2024

دراسة تحليلية لقصة "باثور رئيس المخفر" للكاتب مصطفى الحاج حسين بقلم الناقد: نور الدين طاهري.

دراسة_نقدية
دراسة تحليلية لقصة "باثور رئيس المخفر" للكاتب مصطفى الحاج حسين
الناقد: نور الدين طاهري.
تندرج القصة القصيرة "باثور رئيس المخفر" ضمن الأدب الساخر الذي يعتمد على النقد الاجتماعي والسياسي عبر أدوات التهكم والسخرية. في القصة، يعرض مصطفى الحاج حسين مشهدا بسيطًا من حياة رئيس مخفر في إحدى القرى، لكنه يحول هذا المشهد إلى تجربة سردية تكشف عن خلل السلطة وعجزها عن فهم حاجات الناس البسيطة. اختيار الكاتب لهذه البيئة الريفية يعكس رغبته في تسليط الضوء على تفاصيل قد تبدو تافهة لكنها تحوي دلالات عميقة تتعلق بسوء استغلال السلطة ونمط الحياة في الأرياف.
تبدأ القصة بتقديم شخصية "أبو رشيد"، رئيس المخفر الذي يعتبر نفسه الحاكم المطلق على القرية ويظن أنه يمتلك الحق في مراقبة وتحليل أفعال الناس. يتحول من مجرد مراقب إلى شخصية تتوهم الخطر حتى في أفعال عادية. في سرد القصة، نجد كيف يتصاعد الموقف من بساطة حدث يومي إلى تهديد متخيل يتطلب تدخلا عاجلا من "الرقيب خليل"، مما يضفي على النص نوعا من العبثية التي تعكس كيف يمكن للسلطة أن تصبح منعزلة عن الواقع، متجاهلة حتى أبسط الاحتياجات الإنسانية.
تمتاز القصة ببناء سردي تصاعدي يبدأ بمشهد عادي لرئيس المخفر وهو يتلصص على حياة القرويين من خلال منظاره. يرى أبو رشيد "خميس" وهو يقضي حاجة طبيعية، لكنه يفسر هذه الحركة باعتبارها عملا مريبا قد يهدد أمن المخفر. هذا التفسير المبالغ فيه يعبر عن نوع من الهوس السلطوي الذي يتجاوز المراقبة ليصبح تجسسا على أبسط التفاصيل. تتدرج الأحداث بشكل كوميدي، إذ تتصاعد الشكوك حتى يستدعي أبو رشيد الرقيب خليل للقبض على "خميس" واستجوابه، وهو مشهد يجسد كيف تحوّل السلطة كل شيء إلى تهديد محتمل.
يتزايد توتر السرد عندما يكتشف القارئ أن أبو رشيد لا يهدف من القبض على خميس لمعاقبته، بل لسؤاله عن وصفة شعبية لمشكلة صحية يعاني منها. يظهر هذا التغير غير المتوقع في الأحداث تناقضًا هزليًا، حيث يتحول رئيس المخفر من سلطة متغطرسة إلى شخص عاجز يبحث عن حلول لمشاكله الخاصة من شخص يعتبره أدنى منه مكانة. وهكذا يبرز الكاتب عبثية السلطة المتغطرسة التي، رغم قوتها الظاهرية، تحتاج في النهاية إلى الحكمة الشعبية لمساعدتها في مواجهة مشاكلها.
أبو رشيد يمثل السلطة بشكلها المتوجس، حيث يبدو مستعدا للقيام بأي شيء من أجل تأكيد سيطرته. يعاني أبو رشيد من نزعة الهوس بالسيطرة، حيث يبدو كأنه يستمد قوته وثقته من قدرته على مراقبة الآخرين والتدخل في حياتهم. هذا السلوك يكشف عن شعور بالضعف الداخلي، وكأن أبو رشيد يسعى إلى تعويض هذا النقص عبر فرض سلطته حتى في الأمور الصغيرة. يظهر في سلوكه ميل نحو التسلط المبالغ فيه، مما يجعله شخصية مضحكة في عيون القراء.
من الناحية النفسية، قد يُفسر سلوك أبو رشيد على أنه نوع من الإسقاط، حيث يسقط مشاكله الصحية والخوف من العجز على تصرفات القرويين، مبررا لنفسه التدخل في حياتهم. يعبر تصرفه هذا عن انفصال عن الواقع، فهو يرى نفسه محصنا من الضعف ومتفوقا على الآخرين، لكنه في النهاية لا يملك حلولا لمشاكله الشخصية دون الاستعانة بحكمة الآخرين. هذه الشخصية الكاريكاتيرية تعكس نمطًا من السلطة المستبدة التي تعاني من مخاوف خفية، وتبحث عن تأكيد ذاتها عبر قمع الآخرين.
اختيار الكاتب للقرية كمسرح للأحداث يعزز من طابع القصة الساخر. تظهر القرية كفضاء بسيط ومكان يتعايش فيه الناس بعيدًا عن تعقيدات الحياة المدنية. في هذا السياق، تأتي سلطة المخفر كقوة دخيلة، تسعى إلى فرض نفوذها رغم بُعدها عن اهتمامات الناس. تُظهر القصة كيف تتصادم البساطة والبراءة مع السلطة المتغطرسة، حيث يمثل خميس في القصة رمزية للإنسان البسيط الذي يعيش حياته دون أن يخطر بباله أنه سيكون موضع اهتمام السلطة.
يظهر "خميس" في القصة كقروي عادي، بسيط في تصرفاته وطريقة تفكيره، لكن هذه البساطة تجعله في عيون السلطة شخصًا غير عادي، يستحق المراقبة والعقاب. يعكس هذا التناقض كيف تسعى السلطة إلى فرض سلطتها حتى على الأمور التي قد لا تعني شيئا، مما يظهر السلطة ككيان عاجز عن التفرقة بين التهديد الحقيقي والموقف العادي. تُبرز القصة الصراع الطبقي بين الفئات الدنيا والفئات السلطوية، وتكشف عن الهوة الكبيرة في طريقة التفكير بين الطرفين.
في قصة "باثور رئيس المخفر" لمصطفى الحاج حسين، يتسم العمل بعمق في جوانب اللغة، الأسلوب، والبنية الفنية، التي تعمل جميعها على تقديم النص في صورة فنية تُعبّر بذكاء عن رؤى نقدية تجاه السلطة وازدواجية الواقع.
الكاتب يستخدم لغة بسيطة وسلسة، تتناسب مع البيئة الواقعية لأحداث القصة، حيث تجسد عفوية الحياة اليومية بتفاصيلها المتنوعة. يختار الحاج حسين مفردات خالية من التكلف، ويبتعد عن التراكيب المعقدة واللغة الرنانة، مما يتيح للقارئ التفاعل بسهولة مع النص والشخصيات. ويبرز عنصر السخرية كأداة لغوية أساسية؛ إذ يعتمد الكاتب على المفارقات اللفظية والتعبيرات التهكمية، ليضفي على النص طابعا كوميديا رغم تناوله موضوعات جادة. ويستخدم الحاج حسين الرموز البسيطة للتعبير عن السلطة واستبدادها، حيث تتحول شخصية "أبو رشيد" إلى نموذج ساخر يعكس هشاشة السلطة المفرطة حين تقف أمام تحديات بسيطة.
يتبنى الكاتب أسلوب السرد التصاعدي، وهو أسلوب يضيف تشويقا للقارئ من خلال بناء الأحداث بشكل تدريجي. تبدأ القصة بمواقف عادية، تتطور إلى مواقف كوميدية ساخرة تعكس تصاعد التوتر في الشخصية الرئيسية "أبو رشيد"، مما يعزز عنصر الكوميديا السوداء في القصة. يمزج الحاج حسين بين السرد والوصف والحوار، مما يخلق نوعًا من الديناميكية في سرد الأحداث، حيث تُروى بعض المواقف بطريقة وصفية لإبراز تفاصيل المكان والشخصيات، بينما تُحكى المواقف الأكثر تفاعلا من خلال الحوار، لتقديم صورة مباشرة لتناقضات السلطة وجهلها أحيانا.
ويستخدم الكاتب تقنية التهكم، حيث يسخر من أوجه القصور في السلطة عن طريق تصوير الشخصيات في مواقف تجعلها تبدو ضعيفة أو غير مدركة، رغم أنها تحمل مظاهر السلطة. يتجلى هذا في طريقة تصرف "أبو رشيد" وهواجسه وتردده في اتخاذ قرارات بسيطة، ما يعكس صورة مضحكة لحالة السلطة وعجزها عن الفهم.
تتبع القصة هيكلا تقليديا يتمحور حول شخصية محورية واحدة، لكن الكاتب يضفي عليها لمسة فنية باستخدام الأحداث المتصاعدة والنهاية الساخرة. تبدأ القصة بوصف المكان والشخصيات بطريقة واقعية، لخلق أجواء تشعر القارئ بأنه داخل تلك البيئة البسيطة والمغلقة. يتم تقديم الشخصيات من خلال تفاعلها مع الأحداث؛ فشخصية "أبو رشيد" تُرسم تدريجيا عبر موقفه من الأحداث المحيطة، ما يكشف لنا عن ملامحه النفسية والأخلاقية.
وتتسم القصة ببنية سردية دائرية، حيث يُختتم الحدث بطريقة تعيد إلى الأذهان النقطة التي بدأت منها، ولكن بمزيد من المفارقة، مما يعمّق الإحساس بالسخرية. يستخدم الكاتب هذه التقنية لإيصال رسالة مفادها أن الأمور لا تتغير، وأن السلطة لا تزال تدور في دوامة من التصرفات غير العقلانية، بعيدا عن الحكمة أو التعقل.
البنية السردية لا تقتصر على تقديم الأحداث، بل تستغل الرمزية في تصوير التناقضات، حيث تتحول القصة إلى نقد لاذع يُعبّر عن رأي خفي حول ضعف السلطة. يصبح "أبو رشيد" رمزًا للسلطة الخائفة والضعيفة، وتعكس تصرفاته كل مفارقات الواقع بين السلطة والواقع. هذه الرمزية تأتي دون تصريح مباشر من الكاتب، بل تعتمد على تحليل القارئ للأحداث واستنتاجاته.
يتكامل استخدام اللغة البسيطة والأسلوب الساخر والبنية السردية التصاعدية لصنع عمل يتيح للقارئ التفاعل مع الرسائل العميقة دون الشعور بالثقل. يتم تقديم الرسائل في إطار فكاهي، مما يجعل القصة تحمل طابعا نقديا مموها.
تمثل قصة "باثور رئيس المخفر" نقدا لاذعا للسلطة المستبدة التي تبحث عن تعزيز قوتها عبر قمع الناس البسطاء. يُظهر الكاتب أن هذا النوع من السلطة ليس فقط ظالمًا، بل أيضًا ضعيفًا ويعاني من التناقضات الداخلية. من خلال شخصية أبو رشيد، يظهر لنا الكاتب كيف يمكن للسلطة أن تكون في حقيقتها مجرد هوس بالسيطرة دون فهم حقيقي للواقع.
يبدو أن القصة تعكس رسالة واضحة بأن القوة الحقيقية لا تأتي من السيطرة على الآخرين، بل من القدرة على فهم الواقع وحاجات الناس. أبو رشيد، بشخصيته الكاريكاتورية، يمثل نموذجا للسلطة المتعالية التي تسعى إلى فرض احترامها بالخوف، لكنها في الحقيقة تحتاج إلى الحكمة والبساطة التي يمتلكها "خميس". هذه الرمزية تبرز كيف أن السلطة قد تبدو قوية لكنها في جوهرها ضعيفة وهشة، وتحتاج دائما إلى الآخر لتكون لها معنى.
------
المرجع
قصة "باثور رئيس المخفر" للكاتب مصطفى الحاج حسين المنشورة على صفحة الموقع الثقافي لأبركان.
نور الدين طاهري.
Peut être une image de 2 personnes et salle de presse

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق