الأربعاء، 21 ديسمبر 2022

(ومضات في سماء الوطن ) تجليات المشاعر الوطنية في قصيدة :"ملحمة وطن" للشاعرة التونسية المتميزة نعيمة مناعي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 (ومضات في سماء الوطن )

تجليات المشاعر الوطنية في قصيدة :"ملحمة وطن" للشاعرة التونسية المتميزة نعيمة مناعي
التجربة الشعرية للشاعرة التونسية المتمرسة - نعيمة مناعي-غنية وحافلة بالعطاء الإبداعي والتنوع الموضوعاتي,كتبت عن الوطن (تونس) وعن الوَجد والحب بأبعاده الإنسانية والحياة والوجدان والقصيدة..
ولكن قبل أن يخوض المرء في الحديث عن صورة الوطن في شعر- نعيمة مناعي-يجدر به أن يحدد تعريفاً لهذه المفردة التي لم تكن ذات حضور كبير في الشعر العالمي،والشعر العربي(1) كذلك.ويبدو أن بروزها أخذ يطفو على السطح،ضمن فهم جديد،في مرحلة نشوء الدول ذات الكيان السياسي المحدد جغرافياً. «والوطن بالمعنى العام منزل الاقامة،والوطن الأصلي هو المكان الذي ولد به الانسان،أو نشأ فيه.
والوطن بالمعنى الخاص هو البيئة الروحية التي تتجه اليها عواطف الانسان القومية.ويتميز الوطن عن الأمة (Nation) والدولة (Etat)بعامل وجداني خاص،وهو الارتباط بالأرض وتقديسها، لاشتمالها على قبور الأجداد»(2).
ونقرأ في المعجم الفلسفي المختصر،تحت مفردة «الوطنية»،ما يلي : «مبدأ يعبر عن حب المرء لوطنه وعن استعداده لخدمة مصالحه.انها انشداد المرء الطبيعي نحو مسقط رأسه، نحو اللغة الأم والتقاليد الوطنية،واهتمامه بمصير البلاد التي ترتبط حياته كلها بها». ونقرأ أيضا : « ولكن المشاعر الوطنية لا تأتي عن أسباب غيبية،من «صوت الدم» أو «العرق» كما يزعم المنظرون البرجوازيون.فهي تظهر تاريخاً،بتأثير ظروف حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية،ولذا فان مضمونها يتغير تبعاً لتغير تلك الظروف” وتحضر تيمة الوطن في قصيدة "ملحمة وطن" للشاعرة التونسية المتميزة -نعيمة مناعي-موضوع الدراسة،بشكل قوي ومهيمن،حيث تحتفي فيه الشاعرة بوطنها تونس،وتجعله في قلب الشعر والخيال والتفكير وفي قلب الأحداث،هو المحور المركزي وفي فضائه الأنا والجماعة روحا وجسدا.
“مهلا يا وطني لا تحترق
وتدثر بعنفوان شبابك
بردا وسلاما على بلسم خضرتك
وعلى عطور الزعتر والإكليل
المتوردة في كل ركن من أركانك
أرأيت البحر كيف يردد روعة
تفاصيلك!
فتمهل يا وطني ولا تكترث
لحاقد
حاد عن عبقرية صمودك
وبالبند العريض انحت
وعلى جذوع أشجارك
الضاربات في عمق الصوان
الباقيات
الباسقات
المعانقات لسفح السماء تارة
ولجبهتها
الوارفات الظلال
على رمال شطآنك
لعين دراهم
درة جندوبة
تنحني أحرف القصيدة
ولتونس تسجد الخضرة
ويتماهى النقاء
في عمق الخضرة
والأصالة والبهاء
فنقرؤه بين الثمرة
والثمرة
بين الخضرة والخضرة
حين يسدل الشفق موسيقاه
في غزل
ويموت الحاقد في عنادها غيظا
وليحترق بنيران سوأته
وقد تعرت حين أضرم النيران
في الأم التي احتضنت
وبسييئاته فليحترق
كما حلمه الواهي المهترئ
ولينتثر دخانا وهباء
وليتدثر حجب الموت الساكنة فيه
مترعة بخيبة أحقاده
وقد عجزت مياه طبرقة الجارية
على استئصال أدرانه
المستشرية فيه
وليهزم من أوقد نيران
أحقاده
بين أنغام ثمرة وبحر
وشاة تدر حليبا ميزاجها
زعترا وإكليلا
وتتداوى برحيق الخمائل الخضر
إن داهمتها الأعاصير
فمهلا وتمهل
يا وطن المعجزات والحرية
وتدثر ببرد ثلوجك
القابعات في الأعماق
وتجمل بزرقة سمائك
الضاربة في البحر
وبتنوع زهرك الساكن
في قمم الجبال
تسلح
وبجلدة رجالك ونسائك
دون ملحمتك
وأصدح بعزف يغازل
مشارف السماء
ولتنقشع سحابة الخونة
الدكناء
ولنغرس في كل شبر
من حريق شجيرة بل شجيرات
ونهمس في الأمنية بلحن شجي
فتستوي الغابات من جديد"
(نعيمة مناعي)
حينما قرأت هذا النص توقفت عند عتباته المهمة من حيث التشكيل في الصورة والسينوغرافيا والالوان واللغة والمشاعر من جهة،والابداع والتألق والانطلاق في عالم كتابة الشعر..
لغة الشاعرة التونسية اللامعة -نعيمة مناعي- تتميز بالدلالات المتغيرة (غير ثابته) لوصف الصورة التي تتشابك في ذهنها وخيالها،وتعصف لنا صورا شعرية متحركة..لأن الصورة الشعرية وبحجم الشاعرية التي تحملها تكون جوهراً للشعر،كما هي روح القصيدة التي تمتد من اول عتبة الى اخرعتبة لتثبت للقارئ الصلة بين الواقع والتأثير المهم جداً،لذلك تأتي الصور قوية ! كل مفردة لها خصوصية في حواس القارئ وشعوره،لأن فن الصورة مرتبط بمفهوم الفن لدى الشاعرة -نعيمة مناعي-والناقد بطبيعة الحال يبحث عن الجمالي في الصورة وعن التجربة الفنية والحالة النفسية للشاعر.. وايضا يبحث الناقد في مستويات الشاعر المتميز من حيث كيفية تجددالصورة ونشاتها في فكره وخياله وعكسها للقارئ لان الحواس وحدها غير كافية بتوصيل ما نصبو اليه،بالاضافة الى بحثه عن الانزياح اللغوي وتحديث اللغة عند الشاعر،وبين الذاتية والموضوعية نتوقف كثيرا،لأن حجم الشاعرية والانزياح اللغوي،وتشكيل الصورة الجديدة،وسعة الخيال والمخيلة وسائل نكتشف بها معايير مهمة لجمالية الصورة الشعرية عند اي شاعر،وهي بصراحة مفاتيح للناقد مهمة لتفكيك اي نص شعري،حتى نصل الى جوهر النص وجمالياته الفنية..
الشاعرة -نعيمة مناعي-لم تأتي بالصدفة ابدا إنما هي ثمار تجارب عديدة حاولت أن تمزقها لكنها كانت قوية من الداخل،حيث تمتلك الذائقة الشعرية لتبوح نتتكلم وتصرخ،لها الشغف الكبير والمعرفة في حب الوطن،لذلك جعلت اهتمامها في الشعر في قلب اهتماماتها،وجعله صوتها المنحدر من أي مكان يسكنها صوب الوطن..
وليس رجع صدى.الصوت والكلمة والطاقة التي يمتلكها الشاعر ضمان كبير في تركيبة الصورة وانعكاسا لحياته،وبنفس الوقت انعكاس لمفهوم المكان -الوطن -لأن الزمان ماعاد يشكل شيئاً الآن ..فالذاكرة تعتمد المكان اولا ًثم تخوض في الازمنة لاحقاً لتثبت من قبل الاسماء كدلالات معروفة للقاصي والداني،ومن اهتم بشأن الادب والتاريخ .
وهذا التقابل الفني بين واقع الشعر المعيش وبين ركام التاريخ يؤسس لوعي ولاحساس الشاعر في فكره ووجدانه بحب الوطن ومتابعة معاناة الناس..
نص شعري تتدفق منه مشاعر خليطة من قوتين أساسيتين هما الفكر الانساني الذي تحمله الشاعرة( نعيمة مناعي)ونبضات قلب حساس رهيف شفاف،يشكلان قوة نابضة في دعائم النص،وهما في نفس الوقت الجسر الذي تعبر به الشاعرة-نعيمة-إلى الانسان القارئ وبالتالي تضيف تفاعلاً عضوياً في المجتمع،وبالمحصلة يتحول النص الى ثمرة جميلة فيها من التكامل الروحي والانساني..
وتسكن في مخيلة القارئ ويتدفأ بها وبأحضانها ! كعاشقة،كحبيبة ! كمعشوقة،كمعشوق ! فالنص يسري على المذكر والمؤنث بنفس التوجهات،لأن الجميع يعيش داخل الاسوار..أسوار حب الوطن (تونس) وانا هنا بصراحة-كما ذكرت سابقا-لا اتساهل في مسؤولية الكتابة النقدية من حيث المحاباة في الاصدقاء،كوني ولسبب بسيط لا أعرف الشاعرة-نعيمة مناعي-عن قرب أبدا..إنما أعرفها عن بعد لمتابعتي اعمالها الشعرية وما تكتب بالفن والادب وهذا من تخصصي انا !
وقد استحوذ علي هذا النص لأن أسجل له ما يستحق من حق واستحقاق وكنشاط ابداعي له ولتجربتها الشعرية وفي قصائدها المتعددة وهي إبنة تونس-مهد الثورات العربية-ابنة الشعر وابنة السرد والحكايا ومكامن الوعي الجمالي في العلاقة بين السحر في اللغة والشعر وما بينهما من انتاج للوعي المتجدد في فضاء وروح الشاعرة السائرة على درب العالمية بخطى ثابتة..
على سبيل الخاتمة :
لقد حاولنا في هذه الورقة إعداد قراءة بسيطة ومتواضعة لقصيدة "ملحمة وطن" للشاعرة نعيمة مناعي.ونعرف جيدا انها لا ترتقي إلى المستوى المطلوب.والهدف الاسمى من هذه المحاولة هو التعريف بالشاعرة الشابة حتى لايغمر ضباب النسيان أشعارها.ولتكون القراءة كاملة وشاملة؛نحن في انتظار إصدار ديوان يضم قصائد الشاعرة لإتمام الرؤية والكشف عن النزعة أو البصمة الشعرية المميزة لقصائدها.
محمد المحسن
تنويه : الشاعرة التونسيىة الفذة نعيمة مناعي تنحت دربها الإبداعي على الصخر بالأظافر،وعليه أنوه بقصائدها العذبة دون مجاملة ولا محاباة..
وأقول : هي شاعرة تعرف من أين يورد الشعر..تمتطي صهوة الحرف وتحلق بالقصيد بأجنحةٍ من تميز ..
-نعيمة مناعي-أراها وأؤمن بأنها علامة فارقة في عالم الشعر الفصيح على صعيد الشاعرات العرب بشكل عام،وعلى صعيد شاعرات الفصيح في تونس التحرير ..
قاصرٌ هو الحرف عن الإمساك بكل خيوط إبداعك أيهتا الشاعرة السامقة...
وأتمنى أن أكون قد طرقت بعضاً من ملامح الجمال بين ربوع قصيدتك الخلابة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق