الثلاثاء، 27 يوليو 2021

قراءة في قصيدة ومضات عشقية..في سماء الوطن” للشاعرة التونسية المتميزة هادية أمنة بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 قراءة في قصيدة ومضات عشقية..في سماء الوطن” للشاعرة التونسية المتميزة هادية أمنة

يعدُّ العنوان عتبة مهمَّة من عتبات النص، سواء كان هذا النص نصًّا شعريًّا أم نصًّا نثريًّا،ولقد اختارت الشاعرة التونسية هادية أمنة عنوان قصيدتها “ومضات عشقية..في سماء الوطن”،وهذا يؤكّد على اختيار هذا المكان وأهميته لتجاوره للقلب في المكانة والأهمية،ولدمج المكان مع القلب؛للتدليل على حبِّ الوطن وعشقِه،كما سرَدت لنا الشاعرة بكل حِرفية،وترَكَتنا نقرأ وكأنها تتحدث عن معشوقة أبدية،وما كانت هذه المعشوقة غير الوطن الأبديِّ الذي يَسكُن كل منا في جوف قلبه،ولا يكاد ينتزع منه إلا بانتزاع روحه وخلاصه الأبدي.
إن الشعراء باختلاف مشاربهم وأفكارهم وأطروحاتهم وتطلُّعاتهم أجمعوا على شيء واحد هو الوطن،وحب الوطن،فكان الحنين إلى الأوطان وذِكْر الديار قاسمًا مشتركًا بين الشعراء والأدباء..
والشعر العربي حافلٌ بقصائدَ عديدة حفلَت أبياتها الشعرية بحبِّ الوطن والحنين إلى الديار والأرض،والمتأمل لشعر الشاعرة التونسية هادية أمنة يجد حبَّ الوطن يَسري بين شرايينها وينبض به قلبُها وقلمُها؛فها هي تقول:
اربدي يا رعود فوق السحاب.
اخترقي الموج ولجّ الضباب.
انزلي يا صواعق من نار الجحيم.
زبانية الربّ عليكم تقيم.
اكفهري يا سماء وانشري الحرائق.
يا لعنة الكون عليكم تكون.
بأظافري أدمي أديم التراب.
انبش قبوركم واخترق السراب.
اسمكم من سجّل البشرية أمحيه.
لا أثر لكم ولا تاريخ يرويه.
لبن كل اناثكم سموم
كيف لهذا الوطن عليكم يهون؟
اللغة هي الوسيلة الأولى لعملية التواصل مع الآخرين،غير أنها تتعدَّى وظيفتها الاجتماعية المحدودةَ هذه،فتشكِّل الأساس في عملية بناء القصيدة؛إذ تمثِّل الطريق الموصلة بين المبدع والمتلقِّي،فتؤدي بذلك وظيفةً أخرى،تتمثَّل في إيجاد روابطَ انفعالية بينهما،فتتَجاوز بذلك لغة التقرير إلى لغة التعبير،وتسعى للكشف عن العواطف والأحاسيس،والانفعالات الكامنة في قلب الشاعر،ومحاولة إيصالها في نفس المتلقي.
تختار هادية أمنة من اللغة وإيحاءاتها،وتولّد منها ما قدرت على التوليد،لا لتأتي بمعانٍ يجهلها الناس تمامًا،ولكن لتصور الواقع كما تراه من زوايا متفردةٍ تدهش المتلقي وتجعله يعيش إحساسات جماليةً لا تنتهي،وحجارة هذا البناء الموضوعيِّ الألفاظ،إلا أن الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني،فتُضيف إليها أبعادًا جديدة،وبذاك تتجدد وتحيا،وبغير ذلك تذبل وتموت؛إذ نجد ألفاظها تقدِّم صورة إنسانية وفنية بغرَض إماطة اللِّثام عن هذه الألفاظ.
تعد العملية الإبداعية في حقيقتها نفاذا إلى واقع متخيل،أين يستطيع الشاعر تحويل أخيلته إلى نوع جديد من الحقائق التي تكون انعكاسات قيِّمة لواقعه الذي يمثل مسرحا لتجربته الفنية،فتكون رؤية الشاعر لهذا الواقع مختلفة تماما عما يراه الناس،فهو لا يكتفي بحدود واقعه،بل ينفذ إلى عمقه متخطيا النظرة السطحية إلى نظرة مرتبطة بالكشف والتجاوز،و”ومضات عشقية..في سماء الوطن” هي صورة نقية عن الوطن وتعبير صادق عن طين الأرض و ودلالة خلاقة عن حب البلاد وصرخة مدوية في وجوه المتخاذلين ممن خانوا أوطانهم وباعوا ضمائرهم..
نعم هكذا رأيت الشاعرة التونسية “هادية أمنة”في هذه الأبيات صورة للمرأة العربية التي تعشق وطنها وتنتصر لرموزه وحتى وأن أخفت هذا الحب في حضرة الواقع،إلا أن الشعر الذي دائما يمثل اللهب الذي يختزن الطاقة الداعية للتغيير كشف أمرها،إنها تنظر إلى العروبة التي يختزلها وطننا العربي نظرة لا تُنظر بالبصر بقدر ما تُدرك بالبصيرة،إنه الوطن الجميل والمفعم بكل معاني الجمال،وبأثمن عبارات الصدق،إنه الجمال الكوني كله.
وإذن؟
الغضب إذا يا سادة هو عود الثقاب الذي يوقد الثورة،الغضب -يا أعزائي-هو ما يدفع البشر الى أن يقولوا لا ،هو ما يبقيك حيا ،هو ما يحافظ على حياتك،وهو ما يجعلك انساناً وان كان الغضب حقا لكل شعوب الأرض المقهورة المكبوتة فإنه في حالة الإنسان العربي يصبح واجبا لا يسقط الا بسقوط مسبباته.
ويأتي الصوت المثير للواعج الألم لدى الشاعرة هادية أمنة مختلفًا عن سؤال طالع،فهو لدى -هادية-سؤال الذات ذاتها..! سؤال واقع الإنسانية المهدر حول الوطن..سؤال الظلم الذي تعانيه «الذات» لتضحي هيكلًا من هول الطعنات والجراح التي لم تجد نصيرًا لها..! بيد أن الوطن هنا يصبح لدى «هادية» حالة خلاص،وطوق نجاة أمام هذا الواقع المر،إنه الوطن الذي يأتي في لحظة الذهول والألم معلنًا الخلاص النفسي عبر استحضار تاريخ الوطن الذي يصبح أملًا في الخلاص..
في هذه القصيدة تظهر لنا الشاعرة التونسية المتألقة هادية أمنة كما لم تظهر لنا من قبل، ولأن الأحداث العظيمة تجبرنا على الابداع،فإن قريحة -هادية-قد اجترحت أفضل ما يمكن لشاعر ان يكتبه ،فكتبت بحبر الروح..ودم القصيدة ..
وأترك للقارئ الكريم أحقية التفاعل والتعليق..
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق