تحليل نقدي بقلم الأستاذ الصحفي الشاعر محمد الوداني والشاعرة غزلان حمدي
القصيدة "سيل الصّب تطويه الحقول" تمثل ملحمة وجدانية تتجلى فيها مشاعر الحنين والشوق الممتزجة بمرارة الفقد وألم الغياب. الشاعر طاهر مشي ينسج في أبياته رحلة شعورية تعبر عن الحب العميق الذي يظل نابضًا رغم قسوة الغياب، مقدماً تصويرًا شعريًا بالغ الدقة يجعل القارئ يعيش الألم والرجاء في آنٍ واحد. القصيدة ليست مجرد كلمات، بل هي نبض ينبعث من روح الشاعر، يتدفق كالسيل الذي يُخفيه الليل الطويل ليعود بفيض من الذكريات التي تلامس القلوب.
يتسم النص بجمال اللغة وعمق الأسلوب، حيث يستخدم الشاعر صوراً حسية وحركية مدهشة مثل "ينوح الشيب عني والبتول" و"كأن الحزن في صدري جذول"، ما يعكس قدرة الشاعر على جعل المشاعر ملموسة بصرياً وحسياً. هذه الصور تضيف بُعدًا جديدًا للمعاني، حيث يتحول الحزن إلى طيف يرافق الشاعر، ويغدو الليل موطنًا للذهول والحلم على حد سواء. كذلك، البناء الموسيقي للأبيات يُبرز الحس الإيقاعي البديع، مما يجعل النص يفيض انسجامًا وسلاسة.
المحور الأساسي للقصيدة هو الحب الذي لا يعرف النسيان، والوجدان الذي يظل وفيًا رغم قسوة الغياب والآلام التي تتبع ذلك. الحب هنا يتجاوز حدود العلاقة العابرة ليصبح تجربة إنسانية خالدة، تحتضنها اللغة العربية في أبهى صورها. الشاعر يُظهر في النص تماسكًا بين العاطفة والفكر، حيث يوازن بين التعبير الحسي والتأمل الفلسفي، ما يمنح النص بعدًا إنسانيًا شاملاً.
في ختام القصيدة، يقدم الشاعر رسالة نقاء وصفاء، حيث يؤكد أن الذكريات والمشاعر الصادقة تظل عصية على النسيان مهما طال الزمن. هذا الطهر العاطفي الذي يكتنف النهاية يعكس عمق الفكر العربي الأصيل الذي يمزج بين التجارب الشخصية والحكمة الإنسانية.
طاهر مشي، بهذا النص الرفيع، يبرهن على قدرته الفائقة في التعبير عن أعمق مشاعر النفس البشرية بأسلوب شعري راقٍ ومميز. قصيدته تُجسد قامة أدبية سامقة تثبت أن الشعر العربي، في أيدي أمثاله، ما زال ينبض بالعظمة والخلود، ويمتلك القدرة على التأثير في أجيال متعاقبة.
مع تحيات ادارة مجلة غزلان للأدب والشعر والابداع الفني العربي للنشر والتوثيق والقراءة النقدية التحليلية الثقافية العربية
سيل الصّب تطويه الحقولُ
..............................
ويأتيني بها الليل الطويل
كأن النبضَ تقرعُه الطبولُ
فأغدو كالوليد الشاد حضنًا
وطول الليل يغشاه الذهولُ
فما يجري على الخدّين دمعٌ
همى سيلٌ فضمته السهولُ
فلو تدرين حالي في الغيابِ
ينوح الشيبُ عني والبتولُ
وداءُ الحب مسكون بجأشي
ونارُ الفقد يتلوها عويلُ
وقد غاب الضيا منذ افترقنا
فما نفع الرّوَا لولا الذّبولُ
فعن درب الهوى ما كنت أسهو
وعيني في النَّوَى سيلٌ هطولُ
أدوس الجمر في الأحلام أشقى
كأن الحزنَ في صدري جَذُولُ
وكم ليل يرود الطيف حلمي
فنعم الطيف إن جاء الرسولُ
فيسقيني وكأس الحب يشفي
وسيل الصّب تطويه الحقولُ
بفوح العطر والأثواب طهرًا
فما من ماض تنساه العقولُ
..............................
طاهر مشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق