الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024

على هامش أزمة النقد في عالمنا العربي : حتى نستحضر الروح النقدية..في مضمار الحركة الأدبية بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 على هامش أزمة النقد في عالمنا العربي :


حتى نستحضر الروح النقدية..في مضمار الحركة الأدبية


ما النقد؟ ذلك سؤال طالما شغلني.فمن خلال معايشتي للنقد والنقاد مناقِشًا ومناقَشًا،مستمعًا ومشاهِدًا،تكونت لدي صورة واضحة عن جانب مهم من جوانب أزمة النقد في عالمنا العربي وفي تونس خاصةً،إن لم يكن أهم الجوانب جميعًا.فليست أزمة النقد (وأنا أتحدث هنا عن النقد الأدبي تحديدًا) تكمن في قلة المتابعات النقدية وضعف مسايرتها للإبداعات الأدبية،بل تكمن في سوء فهم مهمة النقد عند كثير ممن يمارسونه أو يتلقونه..

النقد ثروة للشِّعر والشعراء..ووقود التطوّر والتقدّم،وهو ضرورة مهمة لإبراز جماليات الإبداع، ومعالجة الأخطاء،ودائماً يشغل الشاعروربما يتألم،ويصاب بالإحباط،ويشعر بالحسرة نتيجة إخفاقه في كتابة بعض النصوص..

لكن النقد الهادف يفتح مدارك الشاعر،ويستطيع من خلاله المضي قدماً في الاتجاه الصحيح، والمحافظة على موهبته.

ووجود الناقد الحقيقي للشِّعر من أهم العوامل التي تساهم في الشعور بقيمة النص الجمالية،وإزالة الضعف،وظهوره بالشكل المطلوب..

ونجد أن البعض من النقاد يكون قاسياً في نقده مما يتسبب في تحطيم بعض المواهب،والآخر منهم لا يملك مقومات الناقد الحقيقي،مجرد تطاولات تطلق في الاتجاه الخاطئ ولا تخدم الإبداع.

حينما نتحدث عن النقد الأدبي فنحن نتحدث عن تاريخ بدأ من العصر اليوناني واستمر إلى يومنا هذا..

فالنقد الصحيح هو أساس النجاح لأي عمل،ويوسع من أفكار الشاعر،والشِّعر والنقد هما خصمان يساعدان بعضهما للصعود إلى قمة النجاح،ويجب أن نفرق بين النقد والانتقاد فالنقد هو مشرط ناعم يحمله أديب له خبرة وأمانة أدبية،من جانب يشّرح القصيدة ويُظِهر جمالياتها ويبرزها بطريقة جذّابة لتكون مفصلة وواضحة المعاني للمتلقي،ومن جانب آخر يظهر العيوب والهفوات والضعف المصاحب لأي مقطوعة أدبية يتم نقدها.

ومن هنا،فإن كلمة (النقد) تعني في مفهومها الدقيق (الحكم) وهو مفهوم نلحظه في كل استعمالات الكلمة حتى في أشدها عمومًا، فالناقد الأدبي إذن يعتبر مبدئيًا كخبير يستعمل قدرة خاصة ومرانة خاصة في قطعة من الفن الأدبي هي عمل لمؤلف ما فيفحص مزاياها وعيوبها ويصدر عليها حكمًا،ولكننا حين نتكلم عن أدب النقد أو الأدب النقدي،أي الأدب الذي يتكون من النقد،فإننا نضمن تحت العبارة معنى أكثر من الأدب الذي يصدر الحكم.بل إننا نفهم منها كل الكتلة من الأدب الذي كتب عن الأدب،سواء أكان الموضوع تحليلًا أم تفسيرًا أم تقديرًا أم كل هذه مجتمعة.فالشعر والدراما والرواية تتناول الحياة مباشرة..

وأما النقد فيتناول الشعر والدراما والرواية بل يتناول النقد نفسه. فإذا عرف الأدب الإنشائي بأنه تفسير للحياة في صور مختلفة من الفن الأدبي،فإن الأدب النقدي يعرف بأنه تفسير لهذا التفسير ولصور الفن التي يوضع فيها.

والناقد في تأدية واجبه سوف يتبع اتجاهه الخاص في العرض،فقد يحبس نفسه تمامًا على الكتاب الذي في يده، ويحصر انتباهه كله فيما يجده فيه،وقد يوضحه بالرجوع المنظم إلى أعمال أخرى لنفس المؤلف،وقد يلقي عليه ضوءًا من الخارج باتباع طريقة المقارنة،وقد يتقدم عن ذلك في ميدان النقد فيبحث عن سره في مبادئ التفسير التاريخي،ولكن مهما يكن منهجه فإن غرضه الوحيد هو أن يعرف الكتاب في حد ذاته،وأن يعاوننا على أن نعرفه في حد ذاته، فلن يصدر حكمًا قاطعًا عليه من وجهة نظر ذوقه الخاص أو من وجهة نظر أي مجموعة منظمة من الآراء النقدية.

وما يجب الإشارة إليه في هذا السياق،هو أن القراءة الجادة هي التي تسعى إلى إخراج النص إلى عالم الممكن.فالقراءة ليست مسحا بصريا للنص،ولا تفسيرا معجميا لألفاظه واستنباطا لمعانيه المباشرة، فهي فعل خلَّاق/ كالإبداع نفسه يقوم على الهدم والبناء بدرجة أولى،وليست أبدا تقمصا لتجربة ما،ومن ثم،فإن تلقي الأدب يتطلب مرونة نظرية وذخيرة علمية.وعموما فإن عملية القراءة ينبغي أن لا تتجه نحو الألفاظ بمعزل عن سياق تأليفها،إذ من شأن هذا الإغفال أن يحجب عن القارئ إبداعيتها وفنيتها،ولهذا فإن فعل القراءة يقتضي من الباحث جهدا غير يسير،وهذا الجهد يتدرج عبر معرفة اللغة وتركيبها وضروب القول فيها. وتحقيق هذه الغايات يستدعي من القارئ خبرة تساعده على إدراك جمالية الإبداع.

ختاما أقول :

إن الذات التي تدرك عبقرية اللغة وتشكيلها الفني والجمالي،وأنساقها التي تعكس طرائق العقل الجمعي في التفكير والتعبير والمحتوى المعجمي ودلالاتها المشحونة بالمعاني..

هذه التي تدرك ذلك،هي درب الجماعة وصوت الإنسانية،وبالتالي فإن إبداعها اللغوي الفني هو إكتشاف معرفي يأتي بعد مغامرة فيها المعاناة والمتعة مثل مثل الرحالة الذي يخوض المحيط المتلاطم للبحث عن عوالمه الجديدة..

ومن هنا،فإن النقد الأدبي هو الذي يروم الكشف عن مواطن الجمال ومكامن القبح،حيث يسلط الناقد نظرته الفاحصة،وذوقَه المرهفَ على الأثر الأدبي فيسبرَ أغوارَه ويحاول أن ينفُذ إلى عمق نفس الأديب ليستخرج خباياها،بما اكتسبه من ثقافة عميقة،وقوة حاذقة على التحليل والتفسير والموازنة والحكم المبرّأ من شوائب الهوى.

وإذن ؟

النقد الحالي إذا، ظاهرة أدبية صحية لأن ازدياد النصوص المنشورة في مختلف المجالات الأدبية في ازدياد لانتشار دور النشر ولحرية الكتابة التي انداحت وتوسعت أكثر من قبل..

 ولكن  هذا الانتشار يجب أن تواجهه طفرة نقدية وتتماشي معه حتى لا تُنسى هذه النصوص وتموت،خاصة فيها من نصوص الشباب الكثير،التي تحتاج للتوجيه وتحتاج ليعرف الكاتب موقعه من الكتابة والإبداع.

 ولعل الكثير من المدارس الأدبية في أوروبا قد قامت بمقال واحد استوعب كل أركانها وأساسياتها.ومن هنا أرى  أن ما قدمته الملاحق الثقافية،والمواقع الأدبية في الشبكة الإلكترونية ( مؤسسة الوجدان الثقافية نموذجا ) من نشرها الدراسات والمقالات النقدية،والنصوص الإبداعية بمختلف أجناسها،أكثر مما قدمته الجامعات وكليات الآداب،التي هي بطيئة في مواكبة المستجدات في عالم الإبداع الأدبي.

إن توسع مساحة الدراسات النقدية،وتعدد أصحابها،من ناحية الكم سيفرز،حتما،النوع الذي سيبقى خالدا على مرّ العصور.

ويظل النقد الأدبي وليد معايشة وجدانية بالعمل الأدبي،وأنه نوع من الإبداع القائم على المعاناة،وأن عدة الناقد تكمن في البصيرة والأدوات المكتسبة،وأن الكتابة النقدية نوع من الاكتشاف الجديد.

ويبقى السؤال المطروح على الصعيدين الأدبي والنقدي هو كم عدد الأدباء في عالمنا العربي ممن يؤمنون باستحضار الروح النقدية في مضمار الحركة الأدبية ويرون ضرورة التقويم النقدي لأي عمل أدبي،متميزا كان أم متوسط الجودة أم هابط المستوى؟


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق