شاعران من فلسطين..وتونس يكتبان عن فلسطين بحبر الروح..ودم القصيدة..
-طاهر مشي : تونس
-الأستاذة عزيزة بشير من جنين-فلسطين
( أليست فلسطين..قضية وعي..وقبلة الإنسانيَّة..و”إكْسير” حياةِ الضَّمير العالمي..؟!)
تصدير : ومن الشعراء رجال صدقوا،قالوا وفعلوا،ما كان شعرهم حديثًا يُفترى،لكنه تصديق عملهم وجهادهم،بايعوا على الموت،لينالوا جنة الآخرة،ويمنحوا غيرهم جنة الدنيا،حرصوا على الموت فَكُتِبَ لهم الخلود والبقاء،فمنهم من قال الشعر على عتبات الموت،قاله والسيف فوق رأسه،حين يصير الشعر شهادة،والكلمات ألغامًا،والقصائد ساحات قتال،لا يجرؤ على اقتحامها إلا الأبطال،عند ذلك تنكشف معادن الرجال،فلا صوت إلا صوت طالبي الشهادة.
الفعل الثوري العربي الذي تحقق في السنوات الأخيرة إبان إشراقات ما يسمى ب”الربيع العربي” لم يكن معزولا عن خطاب الشعر،مثلما لم يكن معزولا عن الخطاب الذي تنتجه وسائل الإعلام.لقد كانت القصيدة كامنة في وجدانات هؤلاء الشباب.فعلى سبيل المثال كان الشباب يرددون أثناء الثورة قصائد محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وغيرهم،كما استعادت الثورة التونسية وبعدها الثورات العربية الأخرى قصائد شاعر عظيم بقيمة أبي القاسم الشابي،حيث صدحت الحناجر في ساحات وشوارع وميادين مدن عربية عدة “إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب للقدر”.
فما هو دور الشعر اليوم بالتحديد،وفلسطين مسيجة بالأكفان ؟
رافق الأدب العربي القضيّةَ الفلسطينية منذ بدايتها في عام النكبة 1948،وظل مرافقا لها شعريا وقصصيا وروائيا..ويندُر أن نجد أديبا عربيا لم يكتب عن فلسطين لا سيما في حقْل الشِّعر.ذلك أنَّ فلسطين هي بوصلةُ روح الإنسان العربي الأصيل،بكل ما فيها من دلالات دينية وتاريخيَّة وحضارية،فـ “القدس” كانتْ ملتقى الأنبياء والرِّسالات السماوية..وستبقى قبلة الإنسانيَّة و”مركز” ضمِيرها الذي -يتناوم-أو -يتماوت-أحْيانًا،فتوقظه“القُدسُ” على “تراتيل” الأحزان والآلام التي تَصَّاعدُ من قلْب الفلسطيني كلَّما أعلنت القوى الشيطانيَّة،التي يتصدُّرها الكيانُ الجهنمي،-الموت على فلسطين-..غير أن فلسطين لا تموت،لأنَّ موتها يعني موت الإنسانية جمعاء والضمير العالمي بكلِّ ألوانه وأجْناسه..
نحن على ثقة من أن الشعر ديوان العرب وسيبقى،فقد وثّق انتصاراتهم الدائمة،والمتتالية.ووثق كرمهم ورجولتهم،وعزتهم وإباءهم،وأنفتهم وكبرياءهم،وكأنهم فعلا خير أمة أخرجت للناس! وأصبحت معلقة عمرو بن كلثوم مرجعا للمتغنين بالأمجاد السالفة،وشاهدا أبعد من النسيان في العقل الجمعي العربي.
منذ «لا تصالح/ أمل دنقل»دخل الشعر في صراع بين الجرح وصورته الكلامية.وحين تلاحقت الجروح،وتكاثرت وتنوعت،عقدت الدهشة حاجبي الشعر العربي،ووقف كالأبله أمام مشفى المعمداني في حي الزيتون جنوب مدينة غزة.هناك حيث أغلق الشهداء أبواب جراحهم،قبل أن تمسح الجرافات الغبش عن زجاج غيابهم،وسقطت لوحة كتب عليها بالخط الكوفي : وإذا مرضت فهو يشفين،وتحول المشفى إلى مقبرة،فهل يستطيع الشعر حين تبرد حروف اللغة،أن يصف حرارة الدم؟
لقد تأكدت مقولة البير كامو: أسوأ الأوبئة ليست بيولوجية،لكنها أخلاقية.
الدم..يشحذ شهية الدم:
تُواصِلُ آلةُ الموت،مدعومة من دوائر الإستكبار العالمية الحربَ-القروسطية-على فلسطين ومُركزة على “غزة-أرض العزة”..تواصل آلةُ الموتِ ممارسة كلّ “فنون” الإجرام والتوحّش والطغيان والتّجبُّر،بهدف اجتثاث الإنسان الفلسطيني من أرضه،وهو أمر يؤكّد على رهبة وخشية الكيان الإجرامي من “حقيقة” مُستقبل وجوده الذي دخل مرحلة أخرى في “بداية النهاية” للزّوال الحتمي لهذا الكيان،وانتصار فلسطين الذي لا ريب فيه..
واليوم..
تقف الشعوب العربية على قارعة الآلام والأوجاع مُشرِعةً سيوفَ الدعاء والتَّضرُّع بقلوب خاشعة من أجل نُصرة فلسطين،ويقفُ الأدباء والشعراء العرب على جبهات الكلمة مُشهرِين خيالاتهم وأفكارهم ومعانيهم من أجل أن تبقى الوحدة الوجدانيَّة العربية على قيد اليقظةِ..فلم يعد هناك مِنْ قضايا توحّد الأمَّة العربية سوى فلسطين.
وفي لوحة إبداعية موشحة بدرر الشعر، يطرز الشاعر التونسي الكبير -طاهر مشي قصائده عشقا لفلسطين على غرار القصيدة التالية التي يقول فيها باللهجة العامية التونسية العذبة :
فلسطين العربية
فلسطين عربية وتبقى هي
رغم الخائن والرجعية
غزة من لوجاع تنين
وقلبي حزين
على حال عربنا راقدين
قنابل دفاقة
زرعوها في البر وهادة
كيف الصيادة
حتى م الجعبات ثنين
ولا كانوا رفاقة
ينوض عباره بالوجهين
غزة من دون العربان
يهدوا في كل السيسان
ولا خلوا انس ولاجان
ولا فلاقة لا حراقه
غزة صناديد وشجعان
وفزاعة في انهار الغاره
معروفين بناس احرار
لا يخافوا الروم الغدارة
ولا مدافع تضرب بالنار
ولا حلاليف الخشوا الغابة
ولا ذلوا للاستعمار
ولا صهيوني مكشر نابه
يرحمهم ضنوة لحرار
حصدوا في ايامات الصابه
ولبسوا الجبة والبنوار
وما جابوا طريق السلهابة
ولا حكام العملوا العار
باعوا لزرق شامخ نابه
لا نخوة ولا استنفار
سحابتهم في البر ضبابا
وداروا قمة في مشوار
وعملوا في التقرير اجوابا
ظني في التقرير احكار
وعملوا العار
وكلمتهم ماهي جيابة
تبقى فلسطين العز
رجال وكايد لا تتحز
بشارتنا صهيون اهتز
وضاع دليله في الميدان
نهار الغورة ذل وكز
معاها من تونس فرسان
عروبة وقت الضيق تبان
ثابت موقفهم بالنية
مع القضية
ما تترك لرض العربية
يصدر -طاهر مشي في شعره عن رغبة واضحة،تشكّل مرتكزاً مهماً لفكره النضالي،وتقوم هذه الرغبة على تأصيل الاتّجاه المقاوم في الوجدان العربي،وصقله بالشخصية الفلسطينية،التي تنبعث في نصوص الشاعر نيران غضب في وجه المغتصب،وإشادة بالصمود الأسطوري المذهل للمقاومة الفلسطينية سيما بغزة..أرض العزة،لذلك كان التأكيد على ثبات الهوية الفلسطينية في مواجهة سياسة التهويد،وسلب الحقوق التي ينتهجها الاحتلال الغاشم.
ويبقى النص الحقيقي،هو النص المتحرّر من الخوف،هذا النص هو الذي يمكنه مناوشة أعداء فلسطين الجريحة،وهم كثر..في زمن عربي مفروش بالإنكسار..!
وتتدفق الكلمات كنهر جارف من المشاعر،تعبر عن رفض الاستسلام وإصرار على استعادة الحق المسلوب،مهما كانت المطبات.هكذا تنطلق بجسارة الشاعرة الفلسطينية القديرة الأستاذة عزيزة بشير في رحلة شعرية مؤثرة،تمزج فيها بين الرفض الجارف للمحتل والألم المرير لخنوع حفاة الضمير عبر كلمات نابضة بالعاطفة والتحدي،حيث رسمت صورة حية لغزة المكبلة بالقيود،ولكنها حاضرة بقوة في قلب وروح ووجدان كل عربي شريف ومقاوم جسور من اليمن إلى العراق مرورا بلبنان ووصولا إلى أحفاد وابطال الشهيد عزالدين القسام،وبذلك تمنح شعرها بُعدًا إنسانيًّا وثوريا تتجاوز عبره إطار الجغرافيا ليصبح حاضرًا في التاريخ.
شُرَكاءُ في مجازرِ غزّة
أعوذُ باللهِ مِن عشْرٍ تُراقُ بِهِم
أزكى الدِّماءِ بِأرضِ الحَقِّ ….في (غزّهْ)
كلٌّ تَراهُ بِشيْطانٍ عليْهِ بَدتْ
آثارُ جُرْمِهِ كالغيلانِ….……….في بَزّهْ
فالعيْنُ تقطُرُ مِن قتْلِ الرّضيعِ، دَماً
والفمُّ كهْفٌ لِلَحْمِ الطّفلِ ،…. في جَزَّهْ
شيْطانُ ،جزّارُ كلٌّ يستبيحُ بهِ
قتْلَ العِبادِ، شَرابَ الدّمِّ،…….مِنْ غَزّهْ !
كلٌّ يُحاسَبُ عن جُرمٍ بِمَجزَرَةٍ
ماذا فعلتُمْ بأهلِ الحَقِّ ……..والعِزّهْ؟
قتْلٌ وحَرْقٌ وتَجويعٌ ومجزَرَةٌ
حربُ الإبادةِ يا غيلانُ ………..في غزّهْ!
ألكلُّ شرَّعَ للصّهيونِي قتْلَتَهُم
مِنْهُ السِّلاحَ يدُكُّ الأرضَ …….في هَزّهْ
كيفَ اجترأتُمْ؟شعوبُ الأرضِ تمقُتُكم
فالأرضُ أرضُهُ يا غيلانُ ………في غزّهْ
(قسّامُ) يدفعُ عن أرضٍ، لُصوصَ لها
هلْ هذَا إرهابُ ،يا جزّارُ ،…….قد فزَّ؟
في أيِّ ملّةِ أوْ دينٍ ،نُصنِّفُكم؟
لا دينَ يُنبِئُ جزّارينَ ، ………….لا عِزّهْ
كلٌّ لُصوصٌ،يريدُ الغازَ ثروتَهمْ
شعبٌ يُبادُ لذاكَ الغازِ ………..في غزّهْ
أللهُ يُجزي يمَنْ ،لبنانُ يضرِبُكُم
أهلُ العِراقِ مَعَ القسّامِ عن ضِفَّهْ وعنْ غزّهْ
(غزّا )(وضِفّةُ) معْهَا اللهُ فارتَقِبوا
زِلزالَ ربٍّ يهُزُّ عِروشَكُم …………..هزّا !
الشاعرة عزيزة بشير
أما أنا،فلست خجلا من الإعتراف بأنّ-غزة-هذه المرّة،قد وضعتنا جميعا أمام المرآة وأربكت بصمودها العدوّ بعد أن تراءى له بأنّ المصالحة التاريخية التي نسعى إليها،ليست سوى شعار نرفعه ليحتفل هو بقيدنا،ولنباركه نحن على تناغمه معنا-بنعيق المدافع ونباح الرشاشات- ولنشكره على ميزات فصله العنصري لنا..
وإلى أن يتحقق النصر المبين لهذه-المدينة الأسطورية-التي ظلت صامدة في وجه الغزاة،نتطلّع -جميعا-إلى قوافل الشهداء تسير خببا في اتجاه المدافن..إلى شعب يحاصره الليل بعد أن غدر به الزمان،وإلى أبطال المقاومة الفلسطينية،وهم في مواجهة الطائرات والدروع،يدافعون بالأصالة عن نفسهم،وبالنيابة عن الأمة العربية كلّها..ونسأل:إلى متى؟
..ويظلّ السؤال عاريا،حافيا ينخر شفيف الرّوح.
هل بقي ما أضيف ؟
ربما لن أضيف جديدا إذا قلت أنّ أثناء الثورة العربية في فلسطين بين عامي 1936و1939 اعترف-غاندي-نفسه بأن الفلسطينيين “تبعا للقواعد المقررة حول الخير والشر،يملكون الحق في استعمال القوّة العنيفة لمقاومة الإحتلال الأجنبي”،كما أنّ قرارات الأمم المتحدة تكرّس هذا المبدأ نفسه.
فهل بإمكان النضال السلمي الفلسطيني المتجسّد بقانون اللاعنف أن يحقّق أهدافه مع عدو لئيم،شرس وإلغائي يتميّز بالطبيعة الإنكارية لحقوق الضحايا..؟!
بإمكانك أيها القارئ الكريم أن تصوغ الجواب المناسب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق