الأربعاء، 27 نوفمبر 2024

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة : منبعُ العطاءِ النّورانيّ– للشاعرة : سامية خليفة/ لبنان. بقلم الناقد: كريم عبدالله – العراق

 قراءات فلسفيّة في قصائد سرديّة تعبيريّة

تحقيق الحقيقة: من قيود العتمة إلى نور العطاء

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة : منبعُ العطاءِ النّورانيّ– للشاعرة : سامية خليفة/ لبنان.

بقلم : كريم عبدالله – العراق .

القصيدة :

منبعُ العطاءِ النّورانيّ

أوّاهُ منك يا حقيقةُ هل ما زلتِ عنّا تبتعدين؟ أخالُكِ دودةً تشرنقتْ فما نالتْ منْ ضوءِ الشّمسِ دفئًا وما ارتوتْ من مساكبِ السّحائبِ مطرًا، أما آنَ لكِ أن تقطعي خيوطَكِ الحريريّةِ لتنشري جمالكِ؟ فأنتِ الأبهى من فراشةٍ تتصارعُ مع ضوءٍ، أنتِ الأنقى من عذوبةِ سلسبيلٍ لأنّكِ حلمُ المستضعفين. كلُّ ما في هذا الوجودِ ملثّمٌ بالأكاذيبِ والنّفاق، حتى الموتُ الذي ظننّاه مخيفًا سيتحوّلُ بعد خروجِكِ من معتقلِ العتمةِ إلى أنوارِ الحياةِ، سيتحوّلُ إلى مطلبٍ. هيا يا حقيقةُ كوني ناصعةً كعينِ الشّمسِ، معَكِ ستصبحُ عظيمةً كلمةُ شهيدٍ، معك الشّهيدُ وحدَهُ سيلبسُ عباءةَ النّصرِ، معكِ دياجيرُ الظّلماتِ ستحالُ إلى أنوارٍ . أيا حقيقةُ معكِ سنشعرُ بسعادةٍ كامنةٍ لم نعهدْها سابقًا، سعادةٌ كامنةٌ في تلك القوى اللّامنطقيةِ، قوًى سنتجاوزُ معَها تساؤلاتِنا المعهودةَ، معكِ سنُطلقُ أسيرَنا الرعبَ، سنمزّقُ كلَّ تساؤلاتِنا الغبيّةِ، كيف لا وأنتِ ستلبسينَ دروبنَا أوسمةَ الصّمودِ، فنحنُ يا حقيقةُ نذرْنا حياتَنا هبةً للرّياحينِ والطّيورِ والأرضِ، نحن بعدَ اليومِ لن نسألَ ولن ننتظرَ سؤالًا البتّةَ، وأنتِ يا حقيقةُ ستكونينَ حناجرَنا الصارخةَ ، ستكونينَ منبعًا للعطاءِ النّوراني.

توطئة :

تحقيق الحقيقة: من قيود العتمة إلى نور العطاء

القصيدة تتناول مفهوم الحقيقة في سياق فلسفي عميق، حيث تتصور الحقيقة كقوة محررة من القيود، وتحمل الأمل والتحول من الظلام إلى النور. العنوان يعكس الصراع بين الظلمات والأنوار، والتوجه نحو الحقيقة كمنبع للعطاء النوراني، مما يبرز الأبعاد الفلسفية والنقدية التي تتعامل مع مفاهيم الحرية، التمرد، والتحول.

القراءة :

1. التعريف بالقصيدة

قصيدة / منبعُ العطاءِ النّورانيّ / هي نص شعري يتناول مسألة الحقيقة، وهي تطرح إشكالية فلسفية وجودية عميقة، تُعبّر عن الصراع بين الظلام والنور، وبين الحقيقة والزيف. الشاعرة سامية خليفة تبني في قصيدتها خطابًا حافلًا بالرمزية والمجاز، حيث تتخيل الحقيقة ككائن حيّ في حالة من الغياب المستمر، وكأنها في انتظار لحظة انعتاق وتحرر من القيود التي تكبلها. عبر هذه الصورة الفنية، يتم تسليط الضوء على حقيقة الوجود التي يسعى الإنسان إلى الوصول إليها رغم العوائق.

2. الحقيقة بين الغياب والظهور

منذ البيت الأول، تبدأ القصيدة بتوجيه نداء إلى / الحقيقة /، حيث تعبّر الشاعرة عن شعور بالاغتراب والقلق من بعدها المستمر: / أوّاهُ منك يا حقيقةُ هل ما زلتِ عنّا تبتعدين؟ /. هذه البداية تنبئ بحالة من العزلة الروحية والفكرية التي يعاني منها الأفراد في زمن يسوده النفاق والأكاذيب. الحقيقة في هذه السياقات تتماهى مع فكرة المجهول أو المفقود الذي يصعب الوصول إليه، ولكنها في الوقت نفسه تمثل الأمل والتحرر من القيود الظلماء.

الشاعرة تصوّر الحقيقة في صورة / دودة تشرنقتْ / لم تكتسب من الضوء أو المطر شيئًا، وهو تصوير يعكس حالة الانغلاق والتقوقع على الذات في مرحلة ما قبل التحول. هذه الصورة قد تشير إلى واقع الوجود البشري الذي يحيا في ظلمات الجهل، لكن الشاعرة تدعو هذه / الدودة / إلى القطع عن خيوطها الحريرية، في استعارة قوية تشير إلى ضرورة التحرر من العوائق والأوهام.

3. التفاعل بين النور والعتمة

العلاقة بين النور والعتمة تشكل جوهر القصيدة، حيث يُنظر إلى النور كرمزية للحقيقة. الضوء، كما هو في الطبيعة، هو القوة المحررة التي تُبَين الأشياء وتكشفها على حقيقتها. في المقابل، العتمة تمثل الجهل، التضليل، والزيف. الشاعرة تدعو الحقيقة لتكون / ناصعة كعين الشمس /، وهي صورة ساطعة للدعوة إلى الوضوح والإشراق بعد فترة من الغياب.

معكِ دياجيرُ الظّلماتِ ستحالُ إلى أنوارٍ.

هذه العبارة تلخص فكرة الانبعاث والتحول؛ فالحقيقة ليست مجرد إظهار للواقع، بل هي عملية خلق وتجديد. إنها تولد الأنوار من الظلمات، وتحوّل الأوهام إلى يقين. في هذا السياق، يتحول الموت – الذي كان في البداية مصدرًا للخوف – إلى / مطلبٍ / بعد أن تشرق الحقيقة وتكشف أبعاده، لتؤكد على أن الموت ليس نهاية، بل هو انتقال إلى نورٍ جديد.

4. الشهيد والحقيقة

تأخذ القصيدة منحى سياسيًا واجتماعيًا واضحًا عندما تشير إلى / كلمة شهيد/. الشاعرة تجعل من الحقيقة قوة معنوية تُعلي من شأن الشهادة والنضال، وتربطها بالتحرر من القمع والظلم. / معكِ ستصبحُ عظيمةً كلمةُ شهيدٍ / تعني أن الحقيقة تجعل من الشهادة (التي هي رمز التضحية والمقاومة) قيمة عظيمة، ومعها يتحقق النصر.

إلى جانب ذلك، نجد أن الحقيقة تمنح / الصمود / معاني جديدة، إذ تتصور القصيدة أن الحقيقة هي من تمنح الجمال والقدرة على التحمل في عالم مليء بالصعاب. يصبح الإنسان المؤمن بالحقيقة رمزًا للثبات والتحدي، والشهادة تصبح فخرًا لا رعبًا.

5. الرحلة نحو سعادة جديدة

إن سعادة الحقيقة في هذه القصيدة لا تأتي من المنطق التقليدي أو الحسابات العقلية. بل هي سعادة / كامنة / في / القوى اللّامنطقية /، وهي سعادة متجاوزة للتساؤلات الدائمة التي تحاصر البشر. / سعادةٌ كامنةٌ في تلك القوى اللّامنطقيةِ / قد تشير إلى لحظة من الفهم العميق والباطني الذي يتجاوز ما يمكن أن يدركه العقل، ويتعلق بالتحقق الداخلي والتحول الروحي.

6. التفوق على الأسئلة الوجودية

في ختام القصيدة، نجد أن الشاعرة تُقدم نوعًا من الانعتاق الكامل من أسئلة الوجود التقليدية، التي طالما شغلت الإنسان. الشاعرة ترفض التردد أو الانتظار، وتدعو إلى اتخاذ الحقيقة كدافع وعنوان لحياة جديدة: / نحن بعدَ اليومِ لن نسألَ ولن ننتظرَ سؤالًا البتّة./ هي دعوة للإيمان العميق بأن الحقيقة قد تجلت، ولا حاجة بعد الآن للبحث أو التردد.

7. الخاتمة: الحقيقة كمنبع نوراني

القصيدة تنتهي بتأكيد أهمية الحقيقة كـ / منبع للعطاء النوراني /، وهو تعبير يختزل الفكرة الأساسية للعمل: الحقيقة كقوة إبداعية، تمنح الحياة أبعادًا جديدة من الأمل والقوة، وتضيء طريق الإنسان في ظلمات العالم. الشاعرة تُظهر الحقيقة كطاقة متجددة تفيض على الإنسان وتغير وجه العالم، إذ تصبح في النهاية / حناجرنا الصارخة /.

الخلاصة

قصيدة / منبعُ العطاءِ النّورانيّ / هي نص فلسفي عميق يُعبّر عن الصراع الأزلي بين النور والظلام، بين الحقيقة والجهل. الشاعرة سامية خليفة توظف الرمزية والمجاز للتعبير عن رغبة الإنسان في الوصول إلى الحقيقة، والتخلي عن الأكاذيب والظلمات. القصيدة تُمثل رحلة فكرية وعاطفية نحو النور، ويُنظر فيها إلى الحقيقة كقوة تحريرية قادرة على تحويل الواقع، ومنح الأفراد القدرة على تجاوز العقبات والمحن، بل وتحقيق سعادة متجددة تتجاوز المنطق التقليدي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق