" ما قدروا اللّه حقّ قدره "
يتحكّم اللّه تبارك وتعالى خالق الكون والمخلوقات في مُلكه بإرادته المطلقة ومشيئته سبحانه ولا راد لقضائه .
في تدابيره وتصاريفه حكمة وقدرة ربانيّة مطلقة لا تتقيّد بزمان ولا يحيط بها مخلوق أي كان مهما علا مقامه وقربه إلاّ بعد إذنه ومشيئته ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيّه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم ).
لقد ستر اللّه عزّ وجلّ ذاته الكريمة العظيمة في عالم غيبه وحجبها عن الأنظار وعيون الأبصار وحارت فيها ذوي الألباب فلا تساوره ولا تُطاله فطنة ونباهة وكياسة العقلاء والأذكياء والحكماء والعباقرة من خلقه ، فمن كان يُطالع بالوهم أُقْصِيٓ بعلم اللّه المطلق وعظيم برهانه وبيانه.
سبحانه وتعالى تجلّت حكمته وقدرته في الوجود بآيات ودلالات وإشارات وأسرار ونواميس ( وما يعقلها إلاّ العالمون) أصحاب المكاشفة وأرباب القلوب .
لقد جعل تبارك وتعالى بينه وبين العامّة حجاب الظلمة لأنهم لا يطيقون نور بهائه ، ولقد جعل بينه وبين الخاصّة حجاب الأنوار لأنهم لا يطيقون مجاورته سبحانه .
وفي تعامله وإستحكام أمر الوجود النّابع من مشيئته وقدرته وحكمته وعلمه قسّم عالم الوجود إلى عالمين :
__ عالم الشّهادة : عالم الحسّ والكثائف والمادّة والصّور والمظاهر ، عالم ظاهر تشاهده وتراقبه الأبصار بعيون ملكيّة ظاهرة البصر وتلامسها بأحاسيسها وتتحسّسه وتستشعره بوجدانها وعواطفها .
__ وعالم الغيب : عالم الباطن المخفيّ عن أنظار مخلوقاته وأبصارهم ويمكن أن تعرفه النّفوس الراقيّة الطيّبة الكريمة بعيون البصيرة الباطنيّة .
ولقد سجّل العزيز الحكيم ما يكون وسيكون في اللّوح المحفوظ بقلم القدرة وحفظه عن عيون الفضوليين والمراقبين والمتابعين.
إنّها حكمة لامتناهيّة ربانيّة تتجلى فيها إرادة الخالق ومشيئته وصفاته العليا وكماله سبحانه لتمحيص عباده وحصحصة الحق من الباطل وفرز الصادق من الكاذب والمُحبّ من العدوّ واللّه أعلم بمخلوقاته سرّهم وعلانيتهم ، وإنّما تعبّر الذوات عن خلجاتها وخواطرها ونواياها وأحاسيسها عبر أفعالها فتكشف عن معدنها وأصلها ليظهر صدقها من كذبها وإيمانها من عدمه وبطلان دعاويها أو صدقها أمام شتّى الإبتلاءات والفتن.
وكما إقتضت حكمة الأقدار ومشيئة الرحمان أن يظهر ويبرز عالمين في دنيا الفناء والغرور .
--- عالم الأحياء : عالم الشّعور والسعيّ والبيان والحركة ، عالم الصخب والضجيج واللّهو والعبث والعمل والإنجاز والقيّم السّقيمة والسّليمة .
إنّها حياة دنيويّة بجميع تمظهراتها ومعانيها .
--- عالم الأموات : عالم السّكون والهدوء والقبور والحياة البرزخيّة لمن سكنوا وهجعوا بعد إنطفاء شمعة وجودهم تاركين آثارهم وميراثهم وذكراهم ،وهي مقام بعديّ للأحياء بعد نفاذ شحنة وجودهم .
وبين عالم الأحياء وعالم الأموات بوابة الولوج والنفاذ للعالم الأخروي والبرزخي وهي حقيقة الموت رغم غفلة الأحياء وإنصرافهم وتعلّقهم بدنياهم وعدم تفكّرهم وتأملّهم ولو هنيهة وبرهة لمآلهم ومصيرهم فالقبر صندوق عملهم ينتظرهم ليحتوي جثمانهم و يُخيّم سكون أبديّ إلى حين البعث.
إنها حقيقة الموت و" كفى بالموت واعظا".
وتتوافق الإرادة والمشيئة الإلهيّة لتقسيم العالم وفصله إلى عالم شهادة وغيب وعالم أحياء وأموات مع حقيقة الإنسان ومعناه ، إذ للإنسان نشأتان :
_ نشأة ظاهريّة ملكيّة دنيويّة هي بدنه وجثمانه تتجلّى وتعبّر عنها قواه الظاهريّة الحسيّة بأحاسيسه الشّعوريّة وبتنوّع سلوكياته الإراديّة والفطرية الغريزيّة والإنعكاسيّة الشرطيّة .
_ ونشأة باطنيّة غيبيّة ملكوتيّة أخرويّة تبرز وتظهر في قواه الباطنيّة من وهميّة وغضبيّة وشهوانيّة.
وكلّ نفس كيّفت ملكاتها ومواهبها وكفاياتها وإمكانياتها وإستعدادها وفق القوانين الإلهيّة والمعايير العقليّة فازت وركبت في سفينة النجاة وسعدت بحالها.
وكلّ نفس سايرت وأطاعت هواها وخضعت لوساوس شيطانها ورغبت طامعة متوثّبة لحظوظها الدنيويّة وإنحرفت عن فطرتها كان مآلها التيه والضياع والخسران وندمت يوم التغابن عن كل ما أتته من طيش وعناد وكِبر وغرور وطغيان.
الأستاذ : شكري بن محمّد السلطاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق